اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 216
هذا الاختلاف في الاستعدادات والوظائف ينشئ بدوره اختلافاً في التصورات والاهتمامات والمناهج والطرائق.. ولكن الله يحب أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة الواقعة داخل إطار واسع عريض يسعها جميعاً حين تصلح وتستقيم.. هذا الإطار هو إطار التصور الإيماني الصحيح. الذي ينفسح حتى يضم جوانحه على شتى الاستعدادات وشتى المواهب وشتى الطاقات فلا يقتلها ولا يكبحها ولكن ينظمها وينسقها ويدفعها في طريق الصلاح.
ومن ثم لم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه المختلفون وحكم عدل يرجع إليه المختصمون وقول فصل ينتهي عنده الجدل، ويثوب الجميع منه إلى اليقين:
«فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» .
ولا بد أن نقف عند قوله تعالى «بِالْحَقِّ» .. فهو القول الفصل بأن الحق هو ما جاء به الكتاب وأن هذا الحق قد أنزل ليكون هو الحكم العدل، والقول الفصل، فيما عداه من أقوال الناس وتصوراتهم ومناهجهم وقيمهم وموازينهم.. لا حق غيره. ولا حكم معه. ولا قول بعده. وبغير هذا الحق الواحد الذي لا يتعدد وبغير تحكيمه في كل ما يختلف فيه الناس وبغير الانتهاء إلى حكمه بلا مماحكة ولا اعتراض.. بغير هذا كله لا يستقيم أمر هذه الحياة ولا ينتهي الناس من الخلاف والفرقة ولا يقوم على الأرض السلام ولا يدخل الناس في السلم بحال.
ولهذه الحقيقة قيمتها الكبرى في تحديد الجهة التي يتلقى منها الناس تصوراتهم وشرائعهم والتي ينتهون إليها في كل ما يشجر بينهم من خلاف في شتى صور الخلاف.. إنها جهة واحدة لا تتعدد هي التي أنزلت هذا الكتاب بالحق وهو مصدر واحد لا يتعدد هو هذا الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه..
وهو كتاب واحد في حقيقته، جاء به الرسل جميعاً. فهو كتاب واحد في أصله، وهي ملة واحدة في عمومها، وهو تصور واحد في قاعدته: إله واحد، ورب واحد، ومعبود واحد، ومشرّع واحد لبني الإنسان.. ثم تختلف التفصيلات بعد ذلك وفق حاجات الأمم والأجيال ووفق أطوار الحياة والارتباطات حتى تكون الصورة الأخيرة التي جاء بها الإسلام، وأطلق الحياة تنمو في محيطها الواسع الشامل بلا عوائق.
بقيادة الله ومنهجه وشريعته الحية المتجددة في حدود ذلك المحيط الشامل الكبير.
وهذا الذي يقرره القرآن في أمر الكتاب هو النظرية الإسلامية الصحيحة في خط سير الأديان والعقائد..
كل نبي جاء بهذا الدين الواحد في أصله، يقوم على القاعدة الأصيلة: قاعدة التوحيد المطلق.. ثم يقع الانحراف عقب كل رسالة، وتتراكم الخرافات والأساطير، حتى يبعد الناس نهائياً عن ذلك الأصل الكبير. وهنا تجيء رسالة جديدة تجدد العقيدة الأصيلة، وتنفي ما علق بها من الانحرافات، وتراعي أحوال الأمة وأطوارها في التفصيلات.. وهذه النظرية أولى بالإتباع من نظريات الباحثين في تطور العقائد من غير المسلمين، والتي كثيرا ما يتأثر بها باحثون مسلمون، وهم لا يشعرون، فيقيمون بحوثهم على أساس التطور في أصل العقيدة وقاعدة التصور، كما يقول المستشرقون وأمثالهم من الباحثين الغربيين الجاهليين! وهذا الثبات في أصل التصور الإيماني، هو الذي يتفق مع وظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، في كل زمان، ومع كل رسول، منذ أقدم الأزمان.
ولم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه الناس، وأن يكون هناك قول فصل ينتهون إليه. ولم يكن
اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 216