اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 215
وستظل الحياة أبداَ تعرف هذين النموذجين من الناس.. تعرف المؤمنين الذين يتلقون قيمهم وموازينهم وتصوراتهم من يد الله فيرفعهم هذا التلقي عن سفساف الحياة وأعراض الأرض، واهتمامات الصغار وبذلك يحققون إنسانيتهم ويصبحون سادة للحياة، لا عبيداً للحياة.. كما تعرف الحياة ذلك الصنف الآخر: الذين زينت لهم الحياة الدنيا، واستعبدتهم أعراضها وقيمها وشدتهم ضروراتهم وأوهاقهم إلى الطين فلصقوا به لا يرتفعون! وسيظل المؤمنون ينظرون من عل إلى أولئك الهابطين مهما أوتوا من المتاع والأعراض. على حين يعتقد الهابطون أنهم هم الموهوبون، وأن المؤمنين هم المحرومون فيشفقون عليهم تارة ويسخرون منهم تارة. وهم أحق بالرثاء والإشفاق..
213- وعلى ذكر الموازين والقيم وظن الذين كفروا بالذين آمنوا وحقيقة مكان هؤلاء ووزنهم عند الله..
ينتقل السياق إلى قصة الاختلاف بين الناس في التصورات والعقائد، والموازين والقيم وينتهي بتقرير الأصل الذي ينبغي أن يرجع إليه المختلفون وإلى الميزان الأخير الذي يحكم فيما هم فيه مختلفون:
«كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ- وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ- فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
هذه هي القصة.. كان الناس أمة واحدة. على نهج واحد، وتصور واحد. وقد تكون هذه إشارة إلى حالة المجموعة البشرية الأولى الصغيرة من أسرة آدم وحواء وذراريهم، قبل اختلاف التصورات والاعتقادات.
فالقرآن يقرر أن الناس من أصل واحد. وهم أبناء الأسرة الأولى: أسرة آدم وحواء. وقد شاء الله أن يجعل البشر جميعاً نتاج أسرة واحدة صغيرة، ليقرر مبدأ الأسرة في حياتهم، وليجعلها هي اللبنة الأولى. وقد غبر عليهم عهد كانوا فيه في مستوى واحد واتجاه واحد وتصور واحد في نطاق الأسرة الأولى. حتى نمت وتعددت وكثر أفرادها، وتفرقوا في المكان، وتطورت معايشهم وبرزت فيهم الاستعدادات المكنونة المختلفة، التي فطرهم الله عليها لحكمة يعلمها، ويعلم ما وراءها من خير للحياة في التنوع في الاستعدادات والطاقات والاتجاهات.
عندئذ اختلفت التصورات وتباينت وجهات النظر، وتعددت المناهج، وتنوعت المعتقدات.. وعندئذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين..
«وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» ..
وهنا تتبين تلك الحقيقة الكبرى.. إن من طبيعة الناس أن يختلفوا لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض.. إن هذه الخلافة تحتاج إلى وظائف متنوعة، واستعدادات شتى من ألوان متعددة كي تتكامل جميعها وتتناسق، وتؤدي دورها الكلي في الخلافة والعمارة، وفق التصميم الكلي المقدر في علم الله. فلا بد إذن من تنوع في المواهب يقابل تنوع تلك الوظائف ولا بد من اختلاف في الاستعدادات يقابل ذلك الاختلاف في الحاجات.. «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ- إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ- وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» ..
اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 215