responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : فتح القدير المؤلف : الشوكاني    الجزء : 1  صفحة : 363
أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَذْكُرُ حَالًا إِلَّا مَعَ ظُهُورِ الْفِعْلِ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ لَا فِعْلَ هُنَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالْفِعْلُ مَذْكُورٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ وَلَكِنَّهُ جَاءَ الْحَالُ مِنَ الْمَعْطُوفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا اللَّهُ وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [1] إلى قوله:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا [2] الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [3] أَيْ: وَجَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ صَفًّا صَفًّا، وَلَكِنْ هَاهُنَا مَانِعٌ آخَرُ مِنْ جَعْلِ ذَلِكَ حَالًا، وَهُوَ: أَنَّ تَقْيِيدَ عِلْمِهِمْ بِتَأْوِيلِهِ بِحَالِ كَوْنِهِمْ قَائِلِينَ آمَنَّا بِهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْعَطْفِ عَلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ يَعْلَمُونَهُ فِي كُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ لَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْخَاصَّةِ، فَاقْتَضَى هَذَا أن جعل قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حالا، غير صحيح، فتعين المصير إلى الاستئناف والجزم بأن قَوْلَهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مُبْتَدَأً، خَبَرُهُ:
يَقُولُونَ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْعَطْفِ: أن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ مَدَحَهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ، فَكَيْفَ يَمْدَحُهُمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ تَرْكَهُمْ لِطَلَبِ عِلْمِ مَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ، وَلَا جَعَلَ لِخَلْقِهِ إِلَى عِلْمِهِ سَبِيلًا هُوَ مِنْ رُسُوخِهِمْ، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهُ هُمُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، وَنَاهِيكَ بِهَذَا مِنْ رُسُوخٍ. وَأَصْلُ الرُّسُوخِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الثُّبُوتُ فِي الشَّيْءِ، وَكُلُّ ثَابِتٍ رَاسِخٌ، وَأَصْلُهُ فِي الْأَجْرَامِ: أَنْ تَرْسَخَ الْخَيْلُ، أَوِ الشَّجَرُ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الصَّدْرِ مِنِّي مَوَدَّةٌ ... لِلَيْلَى أَبَتْ آيَاتُهَا أَنْ تُغَيَّرَا
فَهَؤُلَاءِ ثَبَتُوا فِي امْتِثَالِ مَا جَاءَهُمْ عَنِ اللَّهِ مِنْ تَرْكِ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ، وَإِرْجَاعِ عِلْمِهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ فَقَالَ: التَّأْوِيلُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: التأويل بمعنى:
حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ [4] ، وَقَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ»
أَيْ: حَقِيقَةُ مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ هَذَا فَالْوَقْفُ عَلَى الْجَلَالَةِ، لِأَنَّ حَقَائِقَ الْأُمُورِ وَكُنْهَهَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مبتدأ، ويَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ خَبَرُهُ. وَأَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ الْمَعْنَى الْآخَرُ وَهُوَ التَّفْسِيرُ وَالْبَيَانُ وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الشيء كقوله: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أَيْ: بِتَفْسِيرِهِ، فَالْوَقْفُ عَلَى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ وَيَفْهَمُونَ مَا خُوطِبُوا بِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ لَمْ يُحِيطُوا عِلْمًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كُنْهِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حَالًا مِنْهُمْ، وَرَجَّحَ ابْنُ فُورَكٍ: أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَأَطْنَبَ فِي ذَلِكَ، وَهَكَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُفَسِّرِينَ رَجَّحُوا ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ:
وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُمْ: رَاسِخِينَ، تَقْضِي بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُحْكَمِ الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ جَمِيعُ مَنْ يَفْهَمُ كَلَامَ الْعَرَبِ، وَفِي أَيِّ شَيْءٍ هُوَ رُسُوخُهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا إِلَّا مَا يَعْلَمُ الْجَمِيعُ، لَكِنَّ الْمُتَشَابِهَ يَتَنَوَّعُ فَمِنْهُ مَا لَا يُعْلَمُ أَلْبَتَّةَ، كَأَمْرِ الرَّوْحِ وَالسَّاعَةِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَهَذَا لَا يَتَعَاطَى عِلْمَهُ أَحَدٌ فَمَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْحُذَّاقِ بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ عِلْمَ الْمُتَشَابِهِ فَإِنَّمَا أَرَادَ هَذَا النَّوْعَ. وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى وُجُوهٍ في

[1] الحشر: 8.
[2] الحشر: 10.
[3] الفجر: 22. [.....]
[4] يوسف: 100.
(5) . الأعراف: 53.
اسم الکتاب : فتح القدير المؤلف : الشوكاني    الجزء : 1  صفحة : 363
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست