responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 510
الْبَشَرِيِّ، فَإِنَّهَا مِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَأَجَلِّ آثَارِ الرَّحْمَةِ. فَمَنْ عَرَفَهُ تَعَالَى بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، الَّتِي هِيَ مُتَعَلَّقُ أِحَاسِنِ الْأَفْعَالِ، وَمَصْدَرُ النِّظَامِ التَّامِّ، فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ، كَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالرَّحْمَةِ السَّابِغَةِ، وَالْعِلْمِ الْمُحِيطِ، وَالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، وَنَظَرَ فِي الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فِي أَنْفُسِ الْبَشَرِ وَالْآفَاقِ، فَعَلِمَ مِنْهَا أَنَّهُ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَأَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ صَنَعَهُ، وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، مُسْتَعِدًّا لِلْعُرُوجِ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَالْهُبُوطِ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ، وَجَعَلَ كَمَالَهُ الَّذِي تُرَقِّيهِ إِلَيْهِ مَوَاهِبُ رُوحِهِ الْمَلَكِيَّةِ، وَنَقْصَهُ الَّذِي تُدَسِّيهِ فِيهِ مَطَالِبُ جَسَدِهِ الْحَيَوَانِيَّةِ، أَثَرًا لِعُلُومِهِ وَأَعْمَالِهِ الْكَسْبِيَّةِ، الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ حَيَاتَيْهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ. ثُمَّ عَلِمَ مَنْ تَدَبَّرَ أَحْوَالَهُ فِي حَيَاتِهِ الْحَاضِرَةِ، وَمَنْ دَرَسَ طِبَاعَهُ وَتَارِيخَ أَجْيَالِهِ الْغَابِرَةِ، أَنْ لَمْ يَكَدْ يُوجَدُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ أَحَاطَ عِلْمًا بِمَصَالِحِ شَخْصِهِ، فَلَمْ يَجْنِ عَلَى جَسَدِهِ وَلَا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ جِيلٌ مِنْ أَجْيَالِهِ، وَلَا شَعْبٌ مِنْ شُعُوبِهِ، ارْتَقَتْ بِهِ عُلُومُهُ الْكَسْبِيَّةُ، وَقَوَانِينُهُ الْوَضْعِيَّةُ، إِلَى نَيْلِ السَّعَادَةِ الْمَنْزِلِيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ، وَالْكَمَالِ الَّذِي يُؤَهِّلُهُ لِلسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، إِلَّا مَنِ اهْتَدَى بِهِدَايَةِ الْمُرْسَلِينَ، وَهُمْ فِي كُلِّ مِلَّةٍ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ - مَنْ عَرَفَ اللهَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الصِّفَاتِ، وَعَرَفَ الْبَشَرَ بِمَا أَجْمَلْنَا مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمُمَيَّزَاتِ، عَلِمَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ مِنْ آثَارِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ مَصَادِرُ النِّظَامِ وَمَظَاهِرُ الْكَمَالِ، قَدْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ إِكْمَالُ اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ لِلْعُرُوجِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَتَوَقِّي الْهُبُوطِ الَّذِي ذَكَّرْنَا بِهِ، فَكَانَ إِرْشَادُ الْوَحْيِ سَبَبًا لِكُلِّ ارْتِقَاءٍ إِنْسَانِيٍّ، فِي رُكْنَيْ وُجُودِهِ الْجُسْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ، وَقَدْ فُتِنَ فِي هَذَا الْعَصْرِ خَلْقٌ كَثِيرٌ بِتَرَقِّي النِّظَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَسَعَةِ التَّمَتُّعِ الشَّهْوَانِيِّ فِي شُعُوبٍ كَانَتْ قَدِ اسْتَفَادَتْ كَثِيرًا مِنْ هِدَايَةِ الْوَحْيِ، ثُمَّ نَسِيَتْ
ذَلِكَ الْأَصْلَ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ كُلِّ الْخَيْرِ، فَعَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بِهِمْ وَحْدَهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بِهِمْ وَبِهِ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَغْنَوْا بِعُقُولِهِمْ عَنْ تِلْكَ الْهِدَايَةِ، بَلْ وَصَمُوهَا بِمَا وَسَمُوهَا بِهِ مِنْ سِمَاتِ الْغَوَايَةِ، حَتَّى إِذَا مَا بَرِحَ الْخَفَاءُ، وَفُضِحَ الرِّيَاءُ، وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ، ظَهَرَ أَنَّ تِلْكَ الْمَدَنِيَّةَ، هِيَ أَفْظَعُ الْوَحْشِيَّةِ وَالْهَمَجِيَّةِ، فَأَيُّهُمْ أَوْسَعُ فِيهَا عُلُومًا وَفُنُونًا وَأَدَقُّ نِظَامًا وَقَانُونًا، هُمْ أَشَدُّ فَتْكًا بِالْإِنْسَانِ وَتَخْرِيبًا لِلْعُمْرَانِ، وَأَنَّ غَايَةَ هَذَا التَّرَقِّي اسْتِعْبَادُ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ بِتَسْخِيرِهِمْ لِخِدْمَتِهِمْ وَاسْتِخْرَاجِ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ لَهُمْ، اسْتِمْتَاعًا بِالشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ السُّفْلَى، وَإِسْرَافًا فِي زِينَةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَقَدْ بَيَّنَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي (رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ) وَجْهَ حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى الرُّسُلِ مِنْ طَرِيقَيْنِ أَوْ مَسْلَكَيْنِ:
(الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ) مَبْنِيٌّ عَلَى عَقِيدَةِ بَقَاءِ النَّفْسِ وَاسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ لِحَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ فِي عَالَمٍ غَيْبِيٍّ، وَحَاجَتِهِمْ إِلَى إِرْشَادٍ إِلَهِيٍّ يَعْلَمُونَ بِهِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِلسَّعَادَةِ فِي تِلْكَ الْحَيَاةِ،

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 510
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست