responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 381
لَمَّا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَيِّنَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِيمَا بَلَّغَهُمْ إِيَّاهُ مِنْ رِسَالَتِهِ، وَأَنَّ مَا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَنَصْرِهِ عَلَيْهِمْ - تَعْجِيزًا أَوْ تَهَكُّمًا أَوْ عِنَادًا - لَيْسَ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَ اللهِ الَّذِي قَضَتْ سُنَّتُهُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ شَيْءٍ أَجَلٌ وَمَوْعِدٌ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَقْضِي الْحَقَّ وَيَقُصُّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَبِيَدِهِ تَنْفِيذُ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ - قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبَيَانِ كَوْنِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ، وَكَوْنِ التَّصَرُّفِ فِي الْخَلْقِ بِيَدِهِ، وَكَوْنِهِ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ مِنْ رُسُلِهِ وَلَا غَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُطَالَبُوا بِهِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) الْمَفَاتِحُ جَمْعُ مَفْتَحٍ - بِفَتْحِ الْمِيمِ - وَهُوَ الْمَخْزَنُ، وَبِكَسْرِهَا وَهُوَ الْمِفْتَاحُ الَّذِي تُفْتَحُ بِهِ الْأَقْفَالُ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ " مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ " وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ، أَيْ أَنَّ خَزَائِنَ الْغَيْبِ - وَهُوَ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنِ الْخَلْقِ - هِيَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَفِي
تَصَرُّفِهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ الْمَفَاتِيحَ - أَيِ الْوَسَائِلَ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ - هِيَ عِنْدَهُ أَيْضًا لَا يَعْلَمُهَا عِلْمًا ذَاتِيًّا إِلَّا هُوَ، فَهُوَ الَّذِي يُحِيطُ بِهَا عِلْمًا وَسِوَاهُ جَاهِلٌ بِذَاتِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحِيطَ عِلْمًا بِهَا وَلَا أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا بِإِعْلَامِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُفَوَّضَ إِلَيْهِ إِنْجَازُ وَعْدِهِ لِرَسُولِهِ بِالنَّصْرِ، وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِ بِالْعَذَابِ وَالْقَهْرِ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ رُسُلَهُ، وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُ إِنْجَازَهُ إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْغَيْبِ وَاسْتِئْثَارِ اللهِ تَعَالَى بِعِلْمِهِ، وَمَا يُعَلِّمُهُ بَعْضَ خَلْقِهِ مِنَ الْحَقِيقِيِّ أَوِ الْإِضَافِيِّ مِنْهُ، وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ بَيَانًا (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) قَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْبَحْرِ كُلُّ مَكَانٍ وَاسِعٍ جَامِعٍ لِلْمَاءِ الْكَثِيرِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ الْمَاءُ الْمِلْحُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْأَنْهَارِ بِالتَّوَسُّعِ أَوِ التَّغْلِيبِ. وَالْبَرُّ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ خَرْتِ الْأَرْضِ بِالْيَابِسَةِ. وَعِلْمُهُ تَعَالَى بِمَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِنْ عِلْمِ الشَّهَادَةِ الْمُقَابِلِ لِعِلْمِ الْغَيْبِ. عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي خَفَايَا الْبَرِّ وَالْبَحْرِ غَائِبٌ عَنْ عِلْمِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مَوْجُودًا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَهُ الْبَاحِثُ مِنْهُمْ عَنْهُ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْبَرِّ عَلَى الْبَحْرِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَإِنَّ قَسْمَ الْبَحْرِ مِنَ الْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنْ قَسْمِ الْبَرِّ، وَخَفَايَاهُ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا) أَيْ وَمَا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ مَا مِنْ نَجْمٍ أَوْ شَجَرٍ مَا إِلَّا يَعْلَمُهَا؛ لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِالْجُزْئِيَّاتِ كُلِّهَا (وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أَيْ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ حَبَّةٍ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ كَالْحَبِّ الَّذِي يُلْقِيهِ الزُّرَّاعُ فِي بُطُونِ الْأَرْضِ يَسْتُرُونَهُ بِالتُّرَابِ فَيَحْتَجِبُ عَنْ نُورِ النَّهَارِ، وَالَّذِي تَذْهَبُ بِهِ النَّمْلُ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحَشَرَاتِ فِي قُرَاهَا وَجُحُورِهَا، أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِ فَاعِلٍ كَالَّذِي يَسْقُطُ مِنَ النَّبَاتِ فِي شُقُوقِهَا وَأَخَادِيدِهَا، وَمَا يَسْقُطُ

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 381
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست