responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 358
وَإِذَا أُطْلِقَ الْقَاضِي عِنْدَ مُتَكَلِّمِي الْأَشَاعِرَةِ كَالرَّازِيِّ يَنْصَرِفُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَالْقَاضِي زَكَرِيَّا عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ. كَالْأَلُوسِيِّ هُوَ زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيِّ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْقَاضِيَ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ جَعَلَ إِرَادَةَ التَّوَاضُعِ بِنَفْيِ الْمَلَكِيَّةِ مُقْتَضِيًا تَفْضِيلَ الْمَلَكِ عَلَى الرَّسُولِ، وَمَا نَقَلَهُ الْأَلُوسِيُّ عَنِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا ضِدُّهُ.
وَقَدْ ذَكَرُوا فِي الْمَقَامِ الْفَرْقَ بَيْنَ الِانْتِقَالِ هُنَا مِنْ نَفْيِ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ إِلَى نَفْيِ دَعْوَى الْمَلَكِيَّةِ، وَالِانْتِقَالِ فِي آيَةِ " سُورَةِ النِّسَاءِ " مِنْ عَدَمِ اسْتِنْكَافِ الْمَسِيحِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ إِلَى نَفْيِ اسْتِنْكَافِ الْمَلَائِكَةِ عَنْهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَقِّي، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الِانْتِقَالَيْنِ وَقَعَ فِي مَوْقِعِهِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْبَلَاغَةُ؛ فَإِنَّ مَقَامَ الِاسْتِنْكَافِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَأَخِّرَ فِيهِ هُوَ الْأَعْلَى؛ لِئَلَّا يَكُونَ ذِكْرُهُ لَغْوًا، وَمُقَامُ نَفْيِ الِادِّعَاءِ يَقْتَضِي الْعَكْسَ لَا مَنْ لَا يَتَجَزَّأُ عَلَى دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ قَدْ يَتَجَزَّأُ عَلَى مَا دُونِهَا وَلَا عَكْسَ، أَيْ أَنَّ مَنْ لَا يَتَسَامَى إِلَى دَعْوَى الْمَلَكِيَّةِ لَا يَتَسَامَى إِلَى مَا فَوْقَهَا مِنْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ بِالْأَوْلَى. هَذَا صَفْوَةُ مَا قَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ ظَوَاهِرَ الْقُرْآنِ الْوَارِدَةَ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَعَلَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَالَ تَعَالَى فِي بَنِي آدَمَ: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (17: 70) بَلْ لَقَالَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَلَقْنَا، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ خَوَاصَّ الْمَلَائِكَةِ - كَالْمُقَرَّبِينَ - أَفْضَلُ مِنْ خَوَاصِّ الْبَشَرِ كَالرُّسُلِ، وَلَا يَتَحَتَّمُ أَنْ يَقْتَضِيَ كَوْنَ عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلَ مِنْ خَوَاصِّ الْبَشَرِ كَالرُّسُلِ، وَقَدْ يُنَافِيهِ كَوْنُ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ مُسَخَّرِينَ لِمَصَالِحِ الْبَشَرِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ قَاطِعٌ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جَعَلُوهُ مَحَلَّ الْخِلَافِ كَمَا قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ الْمُشَارِ
إِلَيْهَا هُنَا. وَإِنَّ النَّفْيَ هُنَا وَارِدٌ فِي بَيَانِ تَحْقِيقِ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَوَظِيفَةِ الرَّسُولِ وَكَوْنِهَا لَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ، أَوْ أَنْ يَعْلَمَ بِكَسْبِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَلَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؛ يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقْدِرُونَ، وَيَعْلَمُ مَا يَعْلَمُونَ. وَالْأَشَاعِرَةُ لَا يُنْكِرُونَ تَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَإِنَّمَا يُفَضِّلُونَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ لِمَا احْتَمَلُوهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَوَّضَ هَذَا الْأَمْرَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَا يُجْعَلَ مَحَلَّ الْقِيلِ وَالْقَالِ؛ إِذْ لَا فَائِدَةَ لَنَا فِي ذَلِكَ، وَلَا عِلْمَ لَنَا بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى أَعْمَالِ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْجَزَاءِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.
وَاسْتَنْبَطُوا مِنَ الْآيَةِ أَيْضًا أَصْلَيْنِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ، قَالَ الرَّازِيُّ فِي بَيَانِهِمَا: قَوْلُهُ: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى حُكْمَيْنِ:
(الْحُكْمُ الْأَوَّلُ) : أَنَّ هَذَا النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ يَجْتَهِدُ، بَلْ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ صَادِرَةٌ عَنِ الْوَحْيِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (53: 3، 4) .

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 358
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست