responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 304
إِزَالَةً مُؤَقَّتَةً. ذَلِكَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ سُمُومٌ مَكْرُوهَةٌ
فِي نَفْسِهَا، وَمَتَى أَثَّرَ سُمُّهَا فِي الْأَعْصَابِ بِالتَّنْبِيهِ الزَّائِدِ وَغَيْرِهِ أَعْقَبَ ذَلِكَ ضِدَّهُ مِنَ الْفُتُورِ وَالْأَلَمِ، وَهُمَا يُطَارَدَانِ بِالْعَوْدِ إِلَى الشُّرْبِ، كَمَا قَالَ أَشْعَرُ السِّكِّيرِينَ وَأَقْدَرُهُمْ عَلَى تَمْثِيلِ تَأْثِيرِ السُّكْرِ
وَدَاوِنِي بِالَّتِي كَانَتْ هِيَ الدَّاءُ
وَقَالَ:
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ ... وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
وَهَذِهِ اللَّذَّةُ الْأُولَى الَّتِي ذَكَرَهَا وَهْمِيَّةٌ كَمَا قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَاقَهَا بَلْ تَوَهَّمَهَا، وَقَلَّدَ بِهَا الْمَفْتُونِينَ بِالسُّكْرِ. وَقَدْ يَقْصِدُ بِالسُّكْرِ إِزَالَةَ آلَامٍ أُخْرَى غَيْرِ أَلَمِ سُمِّ الْخَمْرِ كَالْهُمُومِ وَالْأَكْدَارِ، فَإِنَّ السَّكْرَانَ يَغِيبُ عَنْ عَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ فَلَا يَشْعُرُ بِآلَامِهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَقَدْ يَتَضَاعَفُ عَلَيْهِ أَلَمُ الشُّعُورِ وَالْوِجْدَانِ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي آلَامٍ أُخْرَى بَدَنِيَّةٍ كَالصُّدَاعِ وَالْغَثَيَانِ، أَوْ نَفْسِيَّةٍ كَالَّتِي فَرَّ مِنْهَا، أَوْ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهَا، وَيَصْدُقُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ:
إِذَا اسْتَشْفَيْتَ مِنْ دَاءٍ بِدَاءٍ ... فَأَقْتَلُ مَا أَعَلَّكَ مَا شَفَاكَا.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَمَاعَ الْغِنَاءِ وَآلَاتِ الطَّرَبِ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ؛ لِأَنَّهَا لَذَّةٌ رُوحِيَّةٌ لَا تُعَدُّ دَاعِيَتُهَا مِنَ الْآلَامِ، وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلِمَ أَنَّ السَّمَاعَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ الشَّخْصِيَّةِ وَلَا النَّوْعِيَّةِ ; وَلِذَلِكَ كَانَتْ دَاعِيَتُهُ ضَعِيفَةً لَيْسَتْ كَدَاعِيَةِ الْغِنَاءِ وَالْوِقَاعِ، فَكَانَ فَقْدُهُ غَيْرَ مُؤْلِمٍ إِلَّا لِمَنِ اشْتَدَّ وُلُوعُهُ بِهِ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْقَاعِدَةِ. وَلَذَّةُ السَّمَاعِ عِنْدَ غَيْرِهِ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - ضَعِيفَةٌ بِقَدْرِ ضَعْفِ الدَّاعِيَةِ، فَالسَّمَاعُ لَا يُعَدُّ مِنْ أَرْكَانِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَلَا مِنْ مَقَاصِدِهَا الذَّاتِيَّةِ لِلنَّاسِ، وَإِنَّمَا يَسْتَرْوِحُ إِلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِهِ لِتَرْوِيحِ النَّفْسِ مِنْ آلَامِ الْحَيَاةِ لَا مِنْ أَلَمِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا غَلَبَ اسْمُ " اللهْوِ " عَلَيْهِ وَاسْمُ " الْمَلَاهِي " عَلَى آلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ.
وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ يَصِحُّ جَمْعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ مَتَاعَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْخَاصَّ بِهَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ، أَجَلُهُ قَصِيرٌ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَغْتَرَّ بِهِ الْعَاقِلُ الرَّاشِدُ، فَهُوَ لَيْسَ إِلَّا كَلَعِبِ الْأَطْفَالِ فِي قِصَرِ مُدَّتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الطِّفْلَ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْمَلَلُ مِنْ كُلِّ لُعْبَةٍ، أَوْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ زَمَنَ الطُّفُولَةِ قَصِيرٌ، كُلُّهُ غَفْلَةٌ، أَوْ كَلَهْوِ الْمَهْمُومِ فِي قِصَرِ مُدَّتِهِ، عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَطْلُوبٍ لِذَاتِهِ.
(وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) هَذَا خَبَرٌ مُؤَكَّدٌ بِلَامِ الْقَسَمِ،
يُفِيدُ بِمُقَابَلَتِهِ أَنَّ نَعِيمَ الْآخِرَةِ لَيْسَ كَنَعِيمِ الدُّنْيَا لَعِبًا وَلَهْوًا يَعْبَثُ بِهِ الْعَابِثُونَ، أَوْ يَتَشَاغَلُونَ وَيَتَسَلَّوْنَ بِهِ عَنِ الْأَكْدَارِ وَالْهُمُومِ، بَلْ هُوَ مِمَّا يَقْصِدُهُ الْعَاقِلُ لِفَوَائِدِهِ وَمَنَافِعِهِ الثَّابِتَةِ الدَّائِمَةِ - وَأَنَّ تِلْكَ الدَّارَ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَالشُّرُورَ الْمُحَرَّمَةَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ الَّذِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ حَيَاتِهِمْ إِلَّا التَّمَتُّعَ الَّذِي هُوَ مِنَ اللَّعِبِ فِي قِصَرِ مُدَّتِهِ، وَعَدَمِ فَائِدَتِهِ،

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 304
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست