responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 303
بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ حَظِّ الْمُتَّقِينَ لِلَّهِ فِيهَا مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ، إِثْرَ بَيَانِ مَا يَلْقَاهُ أُولَئِكَ الْمَفْتُونُونَ بِالْأُولَى عِنْدَمَا يَصِيرُونَ إِلَى الثَّانِيَةِ الَّتِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهَا فَقَالَ:
(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) اللَّعِبُ: هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي لَا يَقْصِدُ بِهِ فَاعِلُهُ مَقْصِدًا صَحِيحًا مِنْ تَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، كَأَفْعَالِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ الَّتِي يَتَلَذَّذُونَ بِهَا لِذَاتِهَا، فَمَا يُعَالِجُونَهُ مِنْ كَسْرِ حَبَّةِ بَقْلٍ أَوْ إِزَالَةِ غِشَاءٍ عَنْ قِطْعَةِ حَلْوَى
لِأَجْلِ أَكْلِهَا لَا يُسَمَّى لَعِبًا، وَاللهْوُ: مَا يَشْغَلُ الْإِنْسَانَ عَمَّا يَعْنِيهِ وَيُهِمُّهُ، وَيُعَبِّرُ عَنْ كُلِّ مَا بِهِ اسْتِمْتَاعٌ بِاللهْوِ، كَذَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَفِي اللِّسَانِ: اللهْوُ مَا لَهَوْتَ بِهِ، وَلَعِبْتَ بِهِ، وَشَغَلَكَ مِنْ هَوًى وَطَرَبٍ وَنَحْوِهَا، ثُمَّ قَالَ: يُقَالُ لَهَوْتُ بِالشَّيْءِ أَلْهُو بِهِ لَهْوًا وَتَلَهَّيْتُ بِهِ - إِذَا لَعِبْتَ بِهِ وَتَشَاغَلْتَ وَغَفَلْتَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي اللهْوِ إِذَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ مَا يَشْغَلُ الْإِنْسَانَ مِنْ لَعِبٍ وَطَرَبٍ وَدَوَاعِي سُرُورٍ، وَارْتِيَاحٍ عَمَّا يُتْعِبُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ مِنَ الْجِدِّ أَوْ يُحْزِنُهُ أَوْ يَسُوءُهُ مِنْ خُطُوبِ الدُّنْيَا وَنَكَبَاتِهَا. ثُمَّ تُوُسِّعَ بِهِ فَصَارَ يُطْلَقُ أَحْيَانًا عَلَى مَا يَسُرُّ وَيَلَذُّ وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّشَاغُلُ عَنْ أُمُورِ الْجِدِّ، كَمُغَازَلَةِ النِّسَاءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي ... كَبِرْتُ وَأَلَّا يُحْسِنَ اللهْوَ أَمْثَالِي.
وَقَدْ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى جِدٍّ يُتَشَاغَلُ بِهِ عَنْ جِدٍّ آخَرَ، وَلَكِنَّ الَّذِي عُرِفَ اسْتِعْمَالُهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلُ لَا الْمَصْدَرُ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَهْوٌ، بَلْ يُقَالُ لَهَوْتُ بِكَذَا عَنْ كَذَا، أَوْ تَلَهَّيْتُ أَوِ الْتَهَيْتُ بِهِ عَنْهُ. وَمِنْهُ (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (80: 10) وَإِنَّمَا تَشَاغَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْأَعْمَى بِالتَّصَدِّي لِدَعْوَةِ كُبَرَاءِ قُرَيْشٍ إِلَى الْإِسْلَامِ لَا بِشَيْءٍ فِيهِ طَرَبٌ وَلَا سُرُورٌ نَفْسِيٌّ يُسَمَّى لَهْوًا بِإِطْلَاقٍ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا الَّتِي قَالَ الْكُفَّارُ: إِنَّهُ لَا حَيَاةَ غَيْرُهَا - وَهِيَ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنَ اللَّذَّاتِ الْمَقْصُودَةِ عِنْدَهُمْ لِذَاتِهَا، أَوِ الْمُلْهِيَةِ لَهُمْ عَنْ هُمُومِهَا وَأَكْدَارِهَا - لَيْسَتْ إِلَّا لَعِبًا وَلَهْوًا أَوْ كَاللَّعِبِ وَاللهْوِ فِي عَدَمِ اسْتِتْبَاعِهَا لِشَيْءٍ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَنَافِعِ يَكُونُ فِي حَيَاةٍ بَعْدَهَا، أَوْ هِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ عَمَلٍ لَا يُفِيدُ فِي الْعَاقِبَةِ - فَهُوَ كَلَعِبِ الْأَطْفَالِ - وَبَيْنَ عَمَلٍ لَهُ فَائِدَةٌ عَاجِلَةٌ سَلْبِيَّةٌ، كَفَائِدَةِ اللهْوِ هُوَ دَفْعُ الْهُمُومِ وَالْآلَامِ، وَيُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ: إِنَّ جَمِيعَ لَذَّاتِ الدُّنْيَا سَلْبِيَّةٌ؛ إِذْ هِيَ إِزَالَةُ الْآلَامِ، فَلَذَّةُ الطَّعَامِ مُزِيلَةٌ لِأَلَمِ الْجُوعِ وَبِقَدْرِ هَذَا الْأَلَمِ تَعْظُمُ اللَّذَّةُ فِي إِزَالَتِهِ، وَلَذَّةُ شُرْبِ الْمَاءِ مُزِيلَةٌ لِأَلَمِ الْعَطَشِ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا شُرْبُ الْمُنَبِّهَاتِ وَالْمُخَدِّرَاتِ؛ كَالْخَمْرِ وَالْحَشِيشِ وَالدُّخَانِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَوَّلًا بِالتَّكَلُّفِ وَاحْتِمَالِ الْمَكْرُوهِ وَالْأَلَمِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مَكْرُوهَةٌ بِالطَّبْعِ كَمَا أَخْبَرَ الْمُجَرِّبُونَ، وَإِنَّمَا يَتَكَلَّفُونَهُ طَلَبًا لِلَذَّةٍ مُتَوَهَّمَةٍ يُقَلِّدُ بِهَا الشَّارِبُ غَيْرَهُ، ثُمَّ يَصِيرُ الْمُؤْلِمُ بِالتَّعَوُّدِ مُلَائِمًا بِإِزَالَتِهِ لِلْأَلَمِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 303
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست