responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 51
مُوَحِّدًا خَالِصًا لَا يَسْتَعِينُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى قَطُّ، فَمَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعُونَةِ دَاخِلًا فِي حَلَقَاتِ سِلْسِلَةِ الْأَسْبَابِ كَانَ طَلَبَهُ بِسَبَبِهِ طَلَبًا مِنَ اللهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ فِي تَحَقُّقِ ذَلِكَ إِلَى قَصْدٍ وَمُلَاحَظَةٍ وَشُهُودٍ قَلْبِيٍّ، وَمَا كَانَ غَيْرَ
دَاخِلٍ فِيهَا يَتَوَجَّهُ فِي طَلَبِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ وَلَا حِجَابٍ، وَبِهَذَا الْبَيَانِ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ وَبَيْنَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ وَإِقَامَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا، بَلِ الْكَمَالُ وَالْأَدَبُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَالسَّيِّدُ الْمَالِكُ إِذَا نَصَبَ لِعَبْدِهِ وَخَدَمِهِ مَائِدَةً يَأْكُلُونَ مِنْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَجَعَلَ لَهُمْ خَدَمًا يَقُومُونَ بِأَمْرِهَا، لَا يَكُونُ طَلَبُ الطَّعَامِ مِنْهُ إِلَّا بِالِاخْتِلَافِ إِلَى الْمَائِدَةِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَلَّا يَغْفُلُوا بِهَا وَبِخَدَمِهَا عَنْ ذِكْرِ صَاحِبِ الْفَضْلِ الَّذِي أَنْشَأَهَا بِمَالِهِ وَسَخَّرَ أُولَئِكَ الْخَدَمَ لِلْآكِلِينَ عَلَيْهَا، وَلَا عَنْ حَمْدِهِ وَشُكْرِهِ، فَهَذَا مِثَالُ مَائِدَةِ الْكَوْنِ بِأَسْبَابِهِ وَمُسَبِّبَاتِهِ، وَالْعَبْدُ إِذَا احْتَاجَ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يَجْعَلْهَا سَيِّدُهُ مَبْذُولَةً لِجَمِيعِ عَبِيدِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، طَلَبَهُ مِنْهُ دُونَ سِوَاهُ، فَإِنْ أَظْهَرَ الْحَاجَةَ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِلَّةِ ثِقَتِهِ بِمَوْلَاهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ الْغَيْرَ فِي مَرْتَبَتِهِ أَوْ أَجْدَرَ مِنْهُ بِالْفَضْلِ. هَذَا فِي الْعَبِيدِ مَعَ السَّادَةِ الَّذِينَ لَهُمْ نُظَرَاءٌ وَأَنْدَادٌ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْعَبْدُ الَّذِي يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِ مَوْلَاهُ، لَا يَجِدُ مَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ سِوَاهُ، إِلَّا أَمْثَالَهُ مِنَ الْعَبِيدِ الْمُحْتَاجِينَ إِلَى الْمَوْلَى مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ؟
ثُمَّ إِنَّ لَفْظَ الِاسْتِعَانَةِ يُشْعِرُ بِأَنْ يَطْلُبَ الْعَبْدُ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى الْإِعَانَةَ عَلَى شَيْءٍ لَهُ فِيهِ كَسْبٌ لِيُعِينَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، وَفِي هَذَا تَكْرِيمٌ لِلْإِنْسَانِ بِجَعْلِ عَمَلِهِ أَصْلًا فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِإِتْمَامِ تَرْبِيَةِ نَفْسِهِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَإِرْشَادٍ لَهُ إِلَى أَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ وَالْكَسْبِ، لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ وَلَا مِنْ هَدْيِ الشَّرِيعَةِ، فَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ كَسُولًا مَذْمُومًا لَا مُتَوَكِّلًا مَحْمُودًا، وَبِتَذْكِيرِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى بِضَعْفِهِ لِكَيْلَا يَغْتَرَّ، فَيَتَوَهَّمَ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ بِكَسْبِهِ عَنْ عِنَايَةِ رَبِّهِ، فَيَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ.
إِذَا تَدَبَّرْتَ هَذَا فَهِمْتَ مِنْهُ نُكْتَةً مِنْ نُكَتِ تَقْدِيمِ الْعِبَادَةِ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ، وَهِيَ أَنَّ الثَّانِيَةَ ثَمَرَةٌ لِلْأَوْلَى، وَلَا يُنَافِي هَذَا أَنَّ الْعِبَادَةَ نَفْسَهَا مِمَّا يُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِاللهِ تَعَالَى لِيُوَفَّقَ الْعَابِدُ لِلْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُرْضِي لَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -. لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنَ الشَّجَرَةِ تَكُونُ حَاوِيَةً لِلنَّوَاةِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهَا شَجَرَةٌ أُخْرَى. فَالْعِبَادَةُ تَكُونُ سَبَبًا لِلْمَعُونَةِ مِنْ وَجْهٍ، وَالْمَعُونَةُ تَكُونُ سَبَبًا لِلْعِبَادَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، كَذَلِكَ الْأَعْمَالُ تُكَوِّنُ الْأَخْلَاقَ الَّتِي هِيَ مَنَاشِئُ الْأَعْمَالِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا سَبَبٌ وَمُسَبَّبٌ وَعِلَّةٌ وَمَعْلُولٌ، وَالْجِهَةُ مُخْتَلِفَةٌ فَلَا دَوْرَ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَأَقُولُ أَيْضًا إِنَّ نُكْتَةَ تَقْدِيمِ " إِيَّاكِ " عَلَى الْفِعْلَيْنِ " نَعْبُدُ، وَنَسْتَعِينُ " هِيَ إِفَادَةُ الِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كَغَيْرِهِ فَالْمَعْنَى إِذًا: نَعْبُدُكَ وَلَا نَعْبُدُ غَيْرَكَ وَنَسْتَعِينُكَ وَلَا نَسْتَعِينُ بِسِوَاكَ. وَقَدِ اسْتَخْرَجَ لَهُ بَعْضُ الْغَوَّاصِينَ عَلَى الْمَعَانِي

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 51
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست