responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 50
ضَرَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَثَلًا لِذَلِكَ، الزَّارِعُ يَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي الْحَرْثِ وَالْعَزْقِ وَتَسْمِيدِ الْأَرْضِ وَرَيِّهَا، وَيَسْتَعِينُ بِاللهِ تَعَالَى عَلَى إِتْمَامِ ذَلِكَ بِمَنْعِ الْآفَاتِ وَالْجَوَائِحِ السَّمَاوِيَّةِ أَوِ الْأَرْضِيَّةِ، وَمَثَّلَ بِالتَّاجِرِ يَحْذِقُ فِي اخْتِيَارِ الْأَصْنَافِ، وَيَمْهَرُ فِي صِنَاعَةِ التَّرْوِيجِ، ثُمَّ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَسْتَعِينُونَ بِأَصْحَابِ الْأَضْرِحَةِ وَالْقُبُورِ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَتَيْسِيرِ أُمُورِهِمْ، وَشِفَاءِ أَمْرَاضِهِمْ، وَنَمَاءِ حَرْثِهِمْ وَزَرْعِهِمْ، وَهَلَاكِ أَعْدَائِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ، هُمْ عَنْ صِرَاطِ التَّوْحِيدِ نَاكِبُونَ، وَعَنْ ذِكْرِ اللهِ مُعْرِضُونَ. أَرْشَدَتْنَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ الْوَجِيزَةُ " (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " إِلَى أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ هُمَا مِعْرَاجُ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ:
(أَحَدُهُمَا) : أَنْ نَعْمَلَ الْأَعْمَالَ النَّافِعَةَ، وَنَجْتَهِدَ فِي إِتْقَانِهَا مَا اسْتَطَعْنَا؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْمَعُونَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى عَمَلٍ بَذَلَ فِيهِ الْمَرْءُ طَاقَتَهُ فَلَمْ
يُوَفِّهِ حَقَّهُ، أَوْ يَخْشَى أَلَّا يَنْجَحَ فِيهِ، فَيَطْلُبَ الْمَعُونَةَ عَلَى إِتْمَامِهِ وَكَمَالِهِ، فَمَنْ وَقَعَ مِنْ يَدِهِ الْقَلَمُ عَلَى الْمَكْتَبِ لَا يَطْلُبُ الْمَعُونَةَ مَنْ أَحَدٍ عَلَى إِمْسَاكِهِ، وَمَنْ وَقَعَ تَحْتَ عِبْءٍ ثَقِيلٍ يَعْجَزُ عَنِ النُّهُوضِ بِهِ وَحْدَهُ، يَطْلُبُ الْمَعُونَةَ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى رَفْعِهِ، وَلَكِنْ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ الْقُوَّةِ فِي الِاسْتِقْلَالِ بِهِ، وَهَذَا الْأَمْرُ هُوَ مِرْقَاةُ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ.
(ثَانِيهِمَا) : مَا أَفَادَهُ الْحَصْرُ مِنْ وُجُوبِ تَخْصِيصِ الِاسْتِعَانَةِ بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَهُوَ رُوحُ الدِّينِ، وَكَمَالُ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الَّذِي يَرْفَعُ نُفُوسَ مُعْتَقِدِيهِ وَيُخَلِّصُهَا مِنْ رِقِّ الْأَغْيَارِ، وَيَفُكُّ إِرَادَتَهُمْ مِنْ أَسْرِ الرُّؤَسَاءِ الرُّوحَانِيِّينَ، وَالشُّيُوخِ الدَّجَّالِينَ، وَيُطْلِقُ عَزَائِمَهُمْ مَنْ قَيْدِ الْمُهَيْمِنِينَ الْكَاذِبِينَ، مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْمَيِّتِينَ، فَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ مَعَ النَّاسِ حُرًّا خَالِصًا وَسَيِّدًا كَرِيمًا، وَمَعَ اللهِ عَبْدًا خَاضِعًا (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (33: 71) .
وَأَقُولُ أَيْضًا: عِبَادَةُ اللهِ تَعَالَى هِيَ غَايَةُ الشُّكْرِ لَهُ فِي الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ لِأُلُوهِيَّتِهِ، وَاسْتِعَانَتُهُ هِيَ غَايَةُ الشُّكْرِ لَهُ فِي الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ لِرُبُوبِيَّتِهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ فَلَا يُعْبَدُ بِحَقٍّ سِوَاهُ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَبِّي لِلْعِبَادِ الَّذِي وَهَبَ لَهُمْ جَمِيعَ مَا تَكْمُلُ بِهِ تَرْبِيَتُهُمُ الصُّورِيَّةُ وَالْمَعْنَوِيَّةُ، وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ أَنَّ إِيرَادَ ذِكْرِ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بَعْدَ ذِكْرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ الْأَعْظَمِ، وَاسْمِ الرَّبِّ الْأَكْرَمِ، إِنَّمَا هُوَ لِتَرَتُّبِهِمَا عَلَيْهِمَا مِنْ قَبِيلِ تَرْتِيبِ النَّشْرِ عَلَى اللَّفِّ. وَالِاسْتِعَانَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى تَرَادِفُ التَّوَكُّلَ عَلَى اللهِ وَتَحُلُّ مَحَلَّهُ، وَهُوَ كَمَالُ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ الْقُرْآنُ بَيْنَهُمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) (11: 123) .
فَهَذِهِ الِاسْتِعَانَةُ هِيَ ثَمَرَةُ التَّوْحِيدِ وَاخْتِصَاصُ اللهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ، فَإِنَّ مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ: الشُّعُورَ بِأَنَّ السُّلْطَةَ الْغَيْبِيَّةَ الَّتِي هِيَ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ، الْمَوْهُوبَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ كَافَّةً، هِيَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا تَنْطِقُ بِهِ الْآيَةُ الَّتِي اسْتَشْهَدْنَا بِهَا آنِفًا عَلَى قَرْنِ الْعِبَادَةِ بِالتَّوَكُّلِ، فَمَنْ كَانَ

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 50
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست