responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 382
وَقَدْ خَصَّ إِبْرَاهِيمُ بِدُعَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ، وَلَكِنَّ اللهَ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ وَقَدْ جَعَلَ رِزْقَ الدُّنْيَا عَامًّا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) (17: 20) وَلَكِنَّ تَمْتِيعَ الْكَافِرِ مَحْدُودٌ بِهَذَا الْعُمُرِ الْقَصِيرِ، وَمَصِيرُهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى شَرِّ مَصِيرٍ، وَذَلِكَ جَوَابُ اللهِ - تَعَالَى - لِإِبْرَاهِيمَ: (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أَيْ وَأَرْزُقُ مَنْ كَفَرَ أَيْضًا فَأُمَتِّعُهُ بِهَذَا الرِّزْقِ قَلِيلًا، وَهُوَ مُدَّةُ وُجُودِهِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَسُوقُهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ سَوْقًا اضْطِرَارِيًّا لَا يَقْصِدُهُ هُوَ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ كُفْرَهُ يَنْتَهِي بِهِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ لِجَمِيعِ أَعْمَالِ الْبَشَرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ غَايَاتٍ وَآثَارًا اضْطِرَارِيَّةً تُفْضِي وَتَنْتَهِي إِلَيْهَا بِطَبِيعَتِهَا بِحَسَبِ نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، كَمَا يُفْضِي الْإِسْرَافُ فِي الشَّهَوَاتِ أَوِ التَّعَبُ أَوِ الرَّاحَةُ إِلَى بَعْضِ الْأَمْرَاضِ فِي الدُّنْيَا. فَالْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ مُخْتَارُونَ فِي كُفْرِهِمْ وَفِسْقِهِمْ، فَعِقَابُهُمْ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ عِقَابٌ عَلَى أَعْمَالٍ اخْتِيَارِيَّةٍ، وَهُوَ أَنَّ كُفْرَهُمْ بِآيَاتِ اللهِ سَيَسُوقُهُمْ إِلَى عَذَابِ اللهِ بِمَا أَقَامَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ الْإِنْسَانَ مِنَ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ،
وَأَسَاسُهَا أَنَّ عِلْمَ الْإِنْسَانِ وَأَعْمَالَهُ النَّفْسِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ لَهَا الْأَثَرُ الَّذِي يُفْضِي بِهِ إِلَى سَعَادَتِهِ أَوْ شَقَائِهِ اضْطِرَارًا، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ بِقَضَاءِ اللهِ وَتَقْدِيرِهِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدِ اضْطَرَّ الْكَافِرَ إِلَى الْعَذَابِ وَأَلْجَأَهُ إِلَيْهِ، إِذْ جَعَلَ الْأَرْوَاحَ الْمُدَنَّسَةَ بِالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ مَحِلَّ سُخْطِهِ، وَمَوْضِعَ انْتِقَامِهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا جَعَلَ أَصْحَابَ الْأَجْسَادِ الْقَذِرَةِ عُرْضَةً لِلْأَمْرَاضِ فِي الدُّنْيَا.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْعَقَائِدُ وَالْمَعَارِفُ وَالْأَخْلَاقُ وَالْأَعْمَالُ كَسْبِيَّةً، وَكَانَ الْإِنْسَانُ مُتَمَكِّنًا مِنِ اخْتِيَارِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَالطَّيِّبِ عَلَى الْخَبِيثِ، وَقَدْ هَدَاهُ اللهُ إِلَى ذَلِكَ بِمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْعَقْلِ، وَمَا نَزَّلَهُ مِنَ الْوَحْيِ، صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَعَرَّضَهَا لِلْعَذَابِ وَالشَّقَاءِ بِأَعْمَالِهِ الَّتِي مَبْدَؤُهَا كَسْبِيٌّ، وَأَثَرُهَا ضَرُورِيٌّ.
وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَمَنْ كَفَرَ) . . . إِلَخْ إِيجَازٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ، عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ - تَعَالَى - اسْتَجَابَ دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَجَعَلَ لَهُمْ هَذَا الْخَبَرَ فِي الدُّنْيَا، وَأَعَدَّ لَهُمْ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَهُوَ إِيجَازٌ لَمْ يَكُنْ يُعْهَدُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ، جَارٍ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي خِطَابِ الْقُرْآنِ لِلْعَرَبِ خَاصَّةً دُونَ مَا كَانَ يُخَاطِبُ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ عِبْرَةً عَامَّةً لِجَمِيعِ الْمُعْتَبِرِينَ، كَمَا تَكَرَّرَ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ.

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 382
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست