responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 331
وَقَدِ اعْتَادَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا التَّأْثِيرَاتِ النَّفْسِيَّةَ صِنَاعَةً وَوَسِيلَةً لِلْمَعَاشِ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِكَلَامٍ مُبْهَمٍ وَأَسْمَاءٍ غَرِيبَةٍ اشْتَهَرَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهَا مِنْ أَسْمَاءِ الشَّيَاطِينِ وَمُلُوكِ الْجَانِّ، وَأَنَّهُمْ يَحْضُرُونَ إِذَا دُعُوا بِهَا وَيَكُونُونَ مُسَخَّرِينَ لِلدَّاعِي. وَلِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ تَأْثِيرٌ فِي إِثَارَةِ الْوَهْمِ عُرِفَ بِالتَّجْرِبَةِ، وَسَبَبُهُ اعْتِقَادُ الْوَاهِمِ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَسْتَجِيبُونَ لِقَارِئِهِ وَيُطِيعُونَ أَمْرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ فِيهِ خَاصِّيَّةَ التَّأْثِيرِ وَلَيْسَ فِيهِ، وَإِنَّمَا تِلْكَ الْعَقِيدَةُ الْفَاسِدَةُ تَفْعَلُ فِي النَّفْسِ الْوَاهِمَةِ مَا يُغْنِي مُنْتَحِلَ السِّحْرِ عَنْ تَوْجِيهِ هِمَّتِهِ وَتَأْثِيرِ إِرَادَتِهِ. وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي اعْتِقَادِ الدَّهْمَاءِ أَنَّ السِّحْرَ عَمَلٌ يُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِالشَّيَاطِينِ وَأَرْوَاحِ الْكَوَاكِبِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ وَالْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ وَفِي أَحْكَامِهِ، وَعَدَّهُ بَعْضُهُمْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَةِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي فُرُوقِهِمْ أَنَّ السِّحْرَ يُتَلَقَّى بِالتَّعْلِيمِ، وَيَتَكَرَّرُ بِالْعَمَلِ، فَهُوَ أَمْرٌ عَادِيٌّ قَطْعًا بِخِلَافِ الْمُعْجِزَةِ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) وَجْهَانِ:
(أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) أَيْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ هُمُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.
(وَالثَّانِي) : وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْكَلَامِ عَنِ الْيَهُودِ وَأَنَّ الْكَلَامَ فِي الشَّيَاطِينِ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ الْقَوْلِ بِكُفْرِهِمْ. وَانْتِحَالُ الْيَهُودِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ أَمْرٌ كَانَ مَشْهُورًا فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ، وَلَا يَزَالُونَ يَنْتَحِلُونَ ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ. أَيْ أَنَّ فَرِيقًا مِنَ الْيَهُودِ نَبَذُوا كِتَابَ اللهِ (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) وَهَاهُنَا يَقُولُ الْقَائِلُ: بِمَاذَا اتَّبَعُوا أُولَئِكَ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى سُلَيْمَانَ فِي رَمْيِهِ بِالْكُفْرِ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ السِّحْرَ اسْتُخْرِجَ مِنْ كُتُبِهِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ؟ فَأَجَابَ عَلَى طَرِيقِ الْاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) . . . إِلَخْ، وَنَفْيُ الْكُفْرِ عَنْ سُلَيْمَانَ وَإِلْصَاقُهُ بِالشَّيَاطِينِ الْكَاذِبِينَ ذُكِرَ بِطَرِيقِ الِاعْتِرَاضِ، فَعُلِمَ أَيْضًا أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الشَّيَاطِينَ بِهَذِهِ الْفِرْيَةِ أَيْضًا. وَإِنَّمَا كَانَ الْقَصْدُ إِلَى وَصْفِ الْيَهُودِ بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي كَانُوا مُتَلَبِّسِينَ بِهَا، وَيَضُرُّونَ بِهَا النَّاسَ خِدَاعًا وَتَمْوِيهًا وَتَلْبِيسًا.
ثُمَّ قَالَ: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) فَأَجْمَلَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الْوَجِيزَةِ خَبَرَ قِصَّةٍ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِهَا كَمَا أَجْمَلَ فِي ذِكْرِ تَعْلِيمِ السِّحْرِ، فَلَمْ يَذْكُرْ مَا هُوَ، أَشَعْوَذَةٌ وَتَخْيِيلٌ، أَمْ خَوَاصٌّ طَبِيعِيَّةٌ، وَتَأْثِيرَاتٌ نَفْسِيَّةٌ؟ وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْإِعْجَازِ انْفَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ، يَذْكُرُ الْأَمْرَ الْمَشْهُورَ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ لِأَجْلِ الْاعْتِبَارِ بِهِ فَيَنْظِمُهُ فِي أُسْلُوبٍ يُمْكِنُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقْبَلَهُ فِيهِ مَهْمَا يَكُنِ اعْتِقَادُهُ لِذَلِكَ الشَّيْءِ فِي تَفْصِيلِهِ، أَلَا تَرَى كَيْفَ ذَكَرَ السِّحْرَ هُنَا وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى بِأَسَالِيبَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَهَا مَنْ يَدَّعِي أَنَّ السِّحْرَ حِيلَةٌ وَشَعْوَذَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّهَا مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ؟

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 331
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست