responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 330
(قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ) : بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْقِصَصَ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ لِأَجْلِ الْمَوْعِظَةِ وَالْاعْتِبَارِ لَا لِبَيَانِ التَّارِيخِ وَلَا لِلْحَمْلِ عَلَى الْاعْتِقَادِ بِجُزْئِيَّاتِ الْأَخْبَارِ عِنْدَ الْغَابِرِينَ، وَإِنَّهُ لِيُحْكَى مِنْ عَقَائِدِهِمُ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، وَمِنْ تَقَالِيدِهِمُ الصَّادِقُ وَالْكَاذِبُ، وَمِنْ عَادَاتِهِمُ النَّافِعُ وَالضَّارُّ، لِأَجْلِ الْمَوْعِظَةِ وَالْاعْتِبَارِ، فَحِكَايَةُ الْقُرْآنِ لَا تَعْدُو مَوْضِعَ الْعِبْرَةِ وَلَا تَتَجَاوَزُ مَوْطِنَ الْهِدَايَةِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ فِي الْعِبَارَةِ أَوِ السِّيَاقِ وَأُسْلُوبِ النَّظْمِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْسَانِ الْحَسَنِ وَاسْتِهْجَانِ الْقَبِيحِ. وَقَدْ يَأْتِي فِي الْحِكَايَةِ بِالتَّعْبِيرَاتِ الْمُسْتَعْمَلَةِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ أَوِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً فِي نَفْسِهَا كَقَوْلِهِ: (كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (2: 275) وَكَقَوْلِهِ: (بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) (18: 90) وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مَأْلُوفٌ، فَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْ كُتَّابِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَكُتَّابِ الْإِفْرِنْجِ يَذْكُرُونَ آلِهَةَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فِي خُطَبِهِمْ وَمَقَالَاتِهِمْ وَلَا سِيَّمَا فِي سِيَاقِ كَلَامِهِمْ عَنِ الْيُونَانِ وَالْمِصْرِيِّينَ الْقُدَمَاءِ، وَلَا يَعْتَقِدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ.
وَيَقُولُ أَهْلُ السَّوَاحِلِ: غَرَبَتِ الشَّمْسُ، أَوْ سَقَطَ قُرْصُ الشَّمْسِ فِي الْبَحْرِ أَوْ فِي الْمَاءِ، وَلَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُعَبِّرُونَ بِهِ عَنِ الْمَرْئِيِّ.
جَاءَ ذِكْرُ السِّحْرِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَأَكْثَرُهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ،
وَذُكِرَ هُنَا فِي الْكَلَامِ عَنِ الْيَهُودِ. وَإِذَا أَرَدْنَا فَهْمَهُ مِنْ عُرْفِ اللُّغَةِ وَجَدْنَا أَنَّ السِّحْرَ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلُّ مَا لَطُفَ مَأْخَذُهُ وَدَقَّ وَخَفِيَ، وَقَالُوا: سَحَرَهُ وَسَحَّرَهُ بِمَعْنَى خَدَعَهُ وَعَلَّلَهُ، وَقَالُوا: عَيْنٌ سَاحِرَةٌ وَعُيُونٌ سَوَاحِرُ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)) ، وَالسَّحْرُ بِالْفَتْحِ وَبِالتَّحْرِيكِ الرِّئَةُ وَهِيَ أَصْلُ هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَالرِّئَةُ فِي الْبَاطِنِ، فَمَا لَطُفَ مَأْخَذُهُ وَدَقَّ صُنْعُهُ حَتَّى لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ غَيْرُ أَهْلِهِ فَهُوَ بَاطِنٌ خَفِيٌّ، وَمِنْهُ الْخِدَاعُ: وَهُوَ أَنْ يُظْهَرَ لَكَ شَيْءٌ غَيْرُ الْوَاقِعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَالْوَاقِعُ بَاطِنٌ خَفِيٌّ، وَتَأْثِيرُ الْعُيُونِ فِي عُشَّاقِ الْحِسَانِ، وَالْكَلَامُ الْبَلِيغُ فِي عُشَّاقِ الْبَيَانِ، مِمَّا يَخْفَى مَسْلَكُهُ وَيَدِقُّ سَبَبُهُ، حَتَّى يَعْسُرَ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ الْوُقُوفُ عَلَى الْعِلَّةِ فِي تَأْثِيرِهِ.
وَقَدْ وَصَفَ اللهُ السِّحْرَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ تَخْيِيلٌ يَخْدَعُ الْأَعْيُنَ فَيُرِيهَا مَا لَيْسَ بِكَائِنٍ كَائِنًا فَقَالَ: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (20: 66) وَالْكَلَامُ فِي حِبَالِ السَّحَرَةِ وَعِصِيِّهِمْ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) (7: 116) وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا أَنَّ السِّحْرَ كَانَ يُؤْخَذُ بِالتَّعْلِيمِ، وَالتَّارِيخُ يَشْهَدُ بِهَذَا، وَقَدْ كَانَ الْمِصْرِيُّونَ يُطْلِقُونَ لَقَبَ السَّاحِرِ عَلَى الْعَالِمِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) (43: 49) وَمَجْمُوعُ هَذِهِ النُّصُوصِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ إِمَّا حِيلَةٌ وَشَعْوَذَةٌ، وَإِمَّا صِنَاعَةٌ عِلْمِيَّةٌ خَفِيَّةٌ يَعْرِفُهَا بَعْضُ النَّاسِ وَيَجْهَلُهَا الْأَكْثَرُونَ فَيُسَمُّونَ الْعَمَلَ بِهَا سِحْرًا لِخَفَاءِ سَبَبِهِ وَلُطْفِ مَأْخَذِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ مِنْهُ تَأْثِيرُ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي نَفْسٍ أُخْرَى لِمِثْلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ. وَقَدْ قَالَ الْمُؤَرِّخُونَ: إِنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ قَدِ اسْتَعَانُوا بِالزِّئْبَقِ عَلَى إِظْهَارِ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ بِصُوَرِ الْحَيَّاتِ وَالثَّعَابِينِ وَتَخْيِيلِ أَنَّهَا تَسْعَى.

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 330
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست