responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 304
وَكَذَلِكَ حُبُّ الْوَالِدَيْنِ لِلْوَلَدِ لَيْسَتْ عِلَّتُهُ - كَمَا يَقُولُ النَّاسُ - كَوْنَهُ جُزْءًا مِنْهُمَا وَفِلْذَةَ كَبِدِهِمَا، هَذَا كَلَامٌ شِعْرِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ أَيْضًا، فَإِنَّ جِسْمَ الْإِنْسَانِ مُرَكَّبٌ مِنَ الْأَغْذِيَةِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، فَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ صَحِيحَةً، لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحِبَّ الْحِنْطَةَ وَالْغَنَمَ أَكْثَرَ مِمَّا يُحِبُّ وَالِدَيْهِ، وَإِنَّمَا لِحُبِّ الْوَالِدَيْنِ الْوَلَدَ مَنْبَعَانِ: (أَحَدُهُمَا) : حَنَانٌ فِطْرِيٌّ أَوْدَعَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِيهِمَا لِإِتْمَامِ حِكْمَتِهِ (وَثَانِيهُمَا) : مَا جَرَتْ بِهِ سُنَّةُ الْبَشَرِ مِنَ
التَّفَاخُرِ بِالْأَوْلَادِ، وَمِنَ الْأَمَلِ بِالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَيْسَتِ الْفَائِدَةُ مَحْصُورَةً فِي الْمَالِ وَالْعَوْنِ عَلَى الْمَعِيشَةِ، وَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُ الشَّرَفَ وَالْجَاهَ أَيْضًا.
وَكَمْ أَبٍ قَدْ عَلَا بِابْنٍ لَهُ شَرَفًا ... كَمَا عَلَا بِرَسُولِ اللهِ عَدْنَانُ
وَلَمَّا كَانَ حُبُّ الْوَالِدَيْنِ لِلْأَوْلَادِ بِمَكَانَةٍ مِنَ الْقُوَّةِ لَا يُخْشَى زَوَالُهَا، تَرَكَ النَّصَّ عَلَى الْإِحْسَانِ بِهِمْ وَثَنَّى بِالْإِحْسَانِ بِمَنْ دُونَهُمْ فِي النَّسَبِ، فَقَالَ: (وَذِي الْقُرْبَى) .
الْإِحْسَانُ هُوَ الَّذِي يُقَوِّي غَرَائِزَ الْفِطْرَةِ، وَيُوَثِّقُ الرَّوَابِطَ الطَّبِيعِيَّةَ بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ حَتَّى تَبْلُغَ الْبُيُوتُ فِي وَحْدَةِ الْمَصْلَحَةِ دَرَجَةَ الْكَمَالِ، وَالْأُمَّةُ: تَتَأَلَّفُ مِنَ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) ، فَصَلَاحُهَا صَلَاحُهَا، وَهَاهُنَا قَالَ الْأُسْتَاذُ كَلِمَةً جَلِيلَةً وَهِيَ: (وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ لَا تَكُونُ لَهُ أُمَّةٌ) ، وَذَلِكَ أَنَّ عَاطِفَةَ التَّرَاحُمِ وَدَاعِيَةَ التَّعَاوُنِ إِنَّمَا تَكُونَانِ عَلَى أَشَدِّهِمَا وَأَكْمَلِهِمَا فِي الْفِطْرَةِ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ، ثُمَّ بَيْنَ سَائِرِ الْأَقْرَبِينَ، فَمَنْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُ حَتَّى لَا خَيْرَ فِيهِ لِأَهْلِهِ، فَأَيُّ خَيْرٍ يُرْجَى مِنْهُ لِلْبُعَدَاءِ وَالْأَبْعَدِينَ؟ وَمَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ لِلنَّاسِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ بِنْيَةِ أُمَّةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَنْفَعْ فِيهِ اللُّحْمَةُ النَّسَبِيَّةُ الَّتِي هِيَ أَقْوَى لُحْمَةٍ طَبِيعِيَّةٍ تَصِلُ بَيْنَ النَّاسِ، فَأَيُّ لُحْمَةٍ بَعْدَهَا تَصِلُهُ بِغَيْرِ الْأَهْلِ فَتَجْعَلُهُ جُزْءًا مِنْهُمْ يَسُرُّهُ مَا يَسُرُّهُمْ وَيُؤْلِمُهُ مَا يُؤْلِمُهُمْ، وَيَرَى مَنْفَعَتَهُمْ عَيْنَ مَنْفَعَتِهِ وَمَضَرَّتَهُمْ عَيْنَ مَضَرَّتِهِ، وَهُوَ مَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ لِأُمَّتِهِ؟ قَضَى نِظَامُ الْفِطْرَةِ بِأَنْ تَكُونَ نَعْرَةُ الْقَرَابَةِ أَقْوَى مَنْ كُلِّ نَعْرَةٍ، وَصِلَتُهَا أَمْتَنَ مَنْ كُلِّ صِلَةٍ، فَجَاءَ الدِّينُ يُقَدِّمُ حُقُوقَ الْأَقْرَبِينَ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَجَعْلَ حُقُوقِهِمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِهِمْ مِنَ الشَّخْصِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حُقُوقَ أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ فَقَالَ: (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) ، وَالْيَتِيمُ هُوَ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَقَدْ قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ بِهِ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْمِسْكِينِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِفَقْرٍ وَلَا مَسْكَنَةٍ، فَعُلِمَ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَكَّدَ اللهُ - تَعَالَى - الْوَصِيَّةَ بِالْيَتِيمِ، وَفِي الْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْوَصَايَا، وَحَسْبُكَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَهَى عَنْ قَهْرِ الْيَتِيمِ وَشَدَّدَ الْوَعِيدَ عَلَى أَكْلِ مَالِهِ تَشْدِيدًا خَاصًّا، وَلَوْ كَانَ السِّرُّ فِي ذَلِكَ غَلَبَةَ الْمَسْكَنَةِ عَلَى الْيَتَامَى، لَاكْتَفَى هُنَا بِذِكْرِ الْمَسَاكِينِ. كَلَّا إِنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ هُوَ كَوْنُ الْيَتِيمِ لَا يَجِدُ فِي الْغَالِبِ مَنْ تَبْعَثُهُ عَاطِفَةُ الرَّحْمَةِ الْفِطْرِيَّةِ عَلَى الْعِنَايَةِ بِتَرْبِيَتِهِ وَالْقِيَامِ بِحِفْظِ حُقُوقِهِ، وَالْعِنَايَةِ
بِأُمُورِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنَّ الْأُمَّ إِنْ وُجِدَتْ تَكُونُ فِي الْأَغْلَبِ عَاجِزَةً، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ أَبِيهِ، فَأَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ بِمَا أَكَّدَ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالْأَيْتَامِ

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 304
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست