responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 215
لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْبَشَرِ جُبِلَتْ عَلَى أَنْ يَكْتَسِبُوا كُلَّ شَيْءٍ اكْتِسَابًا، وَهِيَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى تَسْلِيَةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَيَانٍ أَنَّ الْبَشَرَ أَوْلَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِإِنْكَارِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ حَتَّى يَعْلَمُوا، وَأَنَّهُمْ جُبِلُوا عَلَى أَنْ يَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا بَعْدَ أَنْ يُخْطِئُوا وَيُذْنِبُوا، وَأَنَّ الْإِفْسَادَ فِي الْأَرْضِ وَجُحُودَ الْحَقِّ وَمُنَاصَبَةَ الدَّاعِي إِلَيْهِ لَيْسَ بِدْعًا مِنْ قَوْمِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ جِبِلَّةُ أَهْلِ الْفِكْرِ وَطَبِيعَةُ الْبَشَرِ.
ثُمَّ إِنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي (الْخَلِيفَةِ) مَذْهَبَيْنِ: ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ صِنْفٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ نَوْعِ الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ وَأَنَّهُ انْقَرَضَ، وَأَنَّ هَذَا الصِّنْفَ الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنْ سَيَجْعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ سَيَحُلُّ مَحَلَّهُ وَيَخْلُفُهُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ إِهْلَاكِ الْقُرُونِ: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ
مِنْ بَعْدِهِمْ) (10: 14) وَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ الصِّنْفَ الْبَائِدَ قَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ وَسَفَكَ الدِّمَاءَ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ اسْتَنْبَطُوا سُؤَالَهُمْ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخَلِيفَةَ لَا بُدَّ أَنْ يُنَاسِبَ مَنْ يَخْلُفُهُ وَيَكُونَ مِنْ قَبِيلِهِ كَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ مِثْلَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى الْخِلَافَةِ، أَجَابَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُونَ مِمَّا يَمْتَازُ بِهِ هَذَا الْخَلِيفَةُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ، وَمَالَهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَإِذَا صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ فَلَيْسَ آدَمُ أَوَّلَ الصِّنْفِ الْعَاقِلِ مِنَ الْحَيَوَانِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَوَّلَ طَائِفَةٍ جَدِيدَةٍ مِنَ الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ تُمَاثِلُ الطَّائِفَةَ أَوِ الطَّوَائِفِ الْبَائِدَةِ مِنْهُ فِي الذَّاتِ وَالْمَادَّةِ، وَتُخَالِفُهَا فِي بَعْضِ الْأَخْلَاقِ وَالسَّجَايَا.
هَذَا أَحْسَنُ مَا يُجْلَى فِيهِ هَذَا الْمَذْهَبُ، وَأَكْثَرُ مَا قَالُوهُ فِيهِ قَدْ سَرَى إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَسَاطِيرِ الْفُرْسِ وَخُرَافَاتِهِمْ، وَمِنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ آدَمَ خَلْقٌ يُسَمَّوْنَ بَالْحِنِّ وَالْبِنِّ، أَوِ الطِّمِّ وَالرِّمِّ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ قَبْلَ آدَمَ مُبَاشَرَةً كَانُوا يُسَمُّونَ الْجِنَّ، وَالْقَائِلُونَ مِنْهُمْ بَالْحِنِ (بِالْمُهْمَلَةِ) وَالْبِنِّ قَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْجِنِّ، وَقَالُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ عَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، فَأَبَادَهُمُ اللهُ (كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا) وَقَالُوا: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسَ فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَحَارَبَ الْجِنَّ فَدَحَرَهُمْ وَفَرَّقَهُمْ فِي الْجَزَائِرِ وَالْبِحَارِ. وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ سَنَدٌ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْقِصَصِ، وَلَكِنْ تَقَالِيدُ الْأُمَمِ الْمَوْرُوثَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تُنْبِئُ بِأَمْرٍ ذِي بَالٍ، وَهِيَ مُتَّفِقَةٌ فِيهِ بِالْإِجْمَالِ، أَلَا وَهُوَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ آدَمَ لَيْسَ أَوَّلَ الْأَحْيَاءِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي سَكَنَتِ الْأَرْضَ.
هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْخَلِيفَةِ، وَذَهَبَ الْآخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً عَنِّي؛ وَلِهَذَا شَاعَ أَنَّ الْإِنْسَانَ خَلِيفَةُ اللهِ فِي أَرْضِهِ. وَقَالَ - تَعَالَى -: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (38: 26) وَالظَّاهِرُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلِيفَةِ آدَمُ وَمَجْمُوعُ ذُرِّيَّتِهِ، وَلَكِنْ مَا مَعْنَى هَذِهِ الْخِلَافَةِ، وَمَا الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِخْلَافِ، هَلْ هُوَ اسْتِخْلَافُ بَعْضِ الْإِنْسَانِ عَلَى بَعْضٍ، أَمِ اسْتِخْلَافُ الْبَعْضِ عَلَى غَيْرِهِ؟ .

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 215
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست