responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 214
فَأَوَّلُ مَا أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِلْهَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ طُرُقِ الْإِعْلَامِ هُوَ وُجُوبُ الْخُضُوعِ وَالتَّسْلِيمِ لِمَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ؛ لِأَنَّ مَا يَضِيقُ عَنْهُ عِلْمُ أَحَدٍ وَيَحَارُ فِي كَيْفِيَّتِهِ يَتَّسِعُ لَهُ عِلْمُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَمِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يُسَلِّمَ لِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ مَا يَتَصَدَّى لَهُ مَهْمَا يَكُنْ بَعِيدَ الْوُقُوعِ فِي اعْتِقَادِهِ، وَمَثَّلَ الْأُسْتَاذُ لِذَلِكَ بِمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ مَعَ مُرِيدِيهِمْ.
وَمِنْ ذَلِكَ اعْتِقَادُ جَمَاهِيرِ النَّاسِ فِي بِلَادِ الْحَضَارَةِ وَالصِّنَاعَاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ إِمْكَانَ أُمُورٍ وَأَعْمَالٍ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَصَوَّرُ إِمْكَانَهَا مِنْ قَبْلُ إِلَّا بَعْضُ كِبَارِ عُلَمَاءِ النَّظَرِ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ عَمَلَ كَذَا فَإِنَّهُمْ يُصَدِّقُونَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْقِلُوا كَيْفَ يَعْمَلُونَهُ.
فَإِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ سِلْكًا لِنَقْلِ الْأَخْبَارِ بِالْكَهْرَبَاءِ إِلَى الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ فِي دَقِيقَةٍ أَوْ دَقَائِقَ قَلِيلَةٍ يُصَدِّقُونَ بِأَنَّهُمْ يُوصِلُونَ تِلْكَ الْأَخْبَارَ مِنْ غَيْرِ سِلْكٍ - وَقَدْ كَانَ - وَيُصَدِّقُونَ بِإِمْكَانِ إِيجَادِ آلَةٍ تَجْمَعُ نَقْلَ الصَّوْتِ وَرُؤْيَةَ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ مَا يُحَاوِلُونَ الْآنَ، وَإِذَا قَالَ لَنَا أَهْلُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ: إِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنُ الْحُصُولِ صَدَّقْنَاهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَلَيْسَ تَصْدِيقُنَا تَقْلِيدًا وَلَا تَسْلِيمًا أَعْمَى كَمَا يُقَالُ، بَلْ هُوَ تَصْدِيقٌ عَنْ دَلِيلٍ، رُكْنُهُ قِيَاسُ مَا يَكُونُ عَلَى مَا قَدْ كَانَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِوَحْدَةِ الْوَسَائِلِ. وَالْمَلَائِكَةُ أَعْلَمُ مِنَّا بِشَأْنِ اللهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَنَّهُ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، فَهُمْ وَإِنْ فَاجَأَهُمُ الْعَجَبُ مِنْ خَلْقِ الْخَلِيقَةِ، يَرُدُّهُمْ إِلَى الْيَقِينِ أَدْنَى التَّنْبِيهِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) جَوَابًا مُقْنِعًا أَيَّ إِقْنَاعٍ.
عَلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّسْلِيمِ لِلْعَالِمِ الْقَادِرِ رُبَّمَا لَا يَذْهَبُ بِالْحَيْرَةِ وَلَا يُزِيلُ الِاضْطِرَابَ مِنْ نَفْسِ الْمُتَعَجِّبِ، وَإِنَّمَا تَسْكُنُ النَّفْسُ بِبُرُوزِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَتْ تَعْجَبُ مَنْ بُرُوزِهِ إِلَى عَالَمِ الْوُجُودِ وَوُقُوفِهَا عَلَى أَسْرَارِهِ وَحِكَمِهِ بِالْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ تَفَضَّلَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِإِكْمَالِ عِلْمِهِمْ بِحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِ هَذَا الْخَلِيفَةِ الْإِنْسَانِيِّ وَسِرِّهِ عِنْدَ طُلُوعِ فَجْرِهِ. فَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ - كَمَا سَيَأْتِي - فَعَلِمُوا أَنَّ فِي فِطْرَةِ هَذَا الْخَلِيفَةِ وَاسْتِعْدَادِهِ عِلْمُ مَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَتَبَيَّنَ لَهُمْ وَجْهَ اسْتِحْقَاقِهِ لِمَقَامِ الْخِلَافَةِ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يُتَوَقَّعُ مِنَ الْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ لَا يَذْهَبُ بِحِكْمَةِ الِاسْتِخْلَافِ وَفَائِدَتِهِ وَمَقَامِهِ، وَنَاهِيكَ بِمَقَامِ الْعِلْمِ وَفَائِدَتِهِ وَسِرِّ الْعَالَمِ وَحِكْمَتِهِ.
فَعَلِمْنَا أَنَّ السَّلَفَ وَالْخَلَفَ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ شُئُونِ الْمَخْلُوقِينَ، وَعِصْمَةِ مَلَائِكَتِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الِاعْتِرَاضِ أَوِ الْإِنْكَارِ. فَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ النَّتِيجَةِ بَيْنَ تَفْوِيضٍ وَتَسْلِيمٍ، وَتَأْوِيلٍ وَتَفْهِيمٍ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَهَاكَ تَفْسِيرُ الْآيَاتِ بِالتَّفْصِيلِ: قَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْآيَاتِ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْكَلَامِ فِي الْكِتَابِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ وَمَنْ دَعَى إِلَيْهِ، فَهِيَ تُجَلِّي حَجَّةَ الرَّسُولِ وَدَعْوَتَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الْعِلْمِ وَيَسْتَفِيدُونَهُ بِالتَّعَلُّمِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي تُنَاسِبُ حَالَهُمْ فَالْبَشَرُ أَوْلَى بِالْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ؛

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 214
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست