responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 204
التَّعْبِيرُ بِالْقَطْعِ هُنَا أَبْلَغُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالنَّقْضِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ مُتَمِّمًا لَهُ؛ كَأَنَّ عَهْدَ اللهِ - تَعَالَى - إِلَى النَّاسِ حَبْلٌ مُحْكَمُ الطَّاقَاتِ مُوَثَّقُ الْفَتْلِ، وَكَأَنَّ هَذَا الْحَبْلَ قَدْ وَصَلَ بِحِكْمَةِ أَمْرِ التَّكْوِينِ وَحُكْمِ أَمْرِ التَّشْرِيعِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ،
فَلَمْ يَكْتَفِ أُولَئِكَ الْفَاسِقُونَ الْمُنْكِرُونَ لِلْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ بِنَقْضِ حَبَلِ الْعَهْدِ الْإِلَهِيِّ وَحَلِّ طَاقَاتِهِ وَنَكْثِ فَتْلِهِ حَتَّى قَطَعُوهُ قَطْعًا، وَأَفْسَدُوا بِذَلِكَ نِظَامَ الْفِطْرَةِ وَنِظَامَ الْهِدَايَةِ الدِّينِيَّةِ أَصْلًا وَفَرْعًا، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ هَذَا الْوَصْفَ بِقَوْلِهِ: (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) وَأَيُّ إِفْسَادٍ أَكْبَرُ مِنْ إِفْسَادِ مَنْ أَهْمَلَ هِدَايَةَ الْعَقْلِ وَهِدَايَةَ الدِّينِ، وَقَطَعَ الصِّلَةَ بَيْنَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتَائِجِ، وَبَيْنَ الْمَطَالِبِ وَالْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ؟ مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ وَوُجُودُهُ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدٌ لِأَهْلِهَا؛ لِأَنَّ شَرَّهُ يَتَعَدَّى كَالْأَجْرَبِ يُعْدِي السَّلِيمَ؛ وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ النَّهْيُ عَنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَالْمُشَاهَدَةُ وَالتَّجْرِبَةُ مُؤَيِّدَةٌ لِلسُّنَّةِ وَمُصَدِّقَةٌ لَهَا خُصُوصًا إِذَا قَعَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ يَصُدُّونَ عَنْهَا وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا، فَإِنَّ إِفْسَادَهُمْ يَكُونُ أَشَدَّ انْتِشَارًا وَأَشْمَلَ خَسَارًا.
وَلَمَّا كَانَ إِفْسَادُ هَؤُلَاءِ عَامًّا لِلْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ لِأَنَّ عِلَّتَهُ فَقْدُ الْهِدَايَتَيْنِ؛ هِدَايَةِ الْفِطْرَةِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ، سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الْخُسْرَانَ وَحَصَرَهُ فِيهِمْ بِقَوْلِهِ: (أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) بِالْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا خُسْرَانُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَرْبَابِ الْبَصَائِرِ الصَّافِيَةِ وَالْفَضَائِلِ السَّامِيَةِ، وَلَكِنَّهُ يَخْفَى عَلَى الْأَكْثَرِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنْ أُولَئِكَ الْخَاسِرِينَ، يَرَوْنَهُمْ مُتَمَتِّعِينَ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مَغْبُوطُونَ سُعَدَاءُ بِهَا، فَيَكُونُ هَذَا الْحُسْبَانُ مِنْ آلَاتِ الْإِفْسَادِ، وَلَوْ سَبَرُوا أَغْوَارَهُمْ وَبَلَوْا أَخْبَارَهُمْ لَأَدْرَكُوا أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ ظُلْمَةِ النَّفْسِ وَضِيقِ الْعَطَنِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ يُنَغِّصُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ لَذَّاتِهِمْ، وَيَقْذِفُ بِهِمْ إِلَى الْإِفْرَاطِ الَّذِي يُوَلِّدُ الْأَمْرَاضَ الْجَسَدِيَّةَ وَالنَّفْسِيَّةَ، وَيُثِيرُ فِي نُفُوسِهِمْ كَوَامِنَ الْوَسَاوِسِ، وَيَجْعَلُ عُقُولَهُمْ كَالْكُرَةِ تَتَقَاذَفُهَا صَوَالِجَةُ الْأَوْهَامِ، وَأَنَّ حُبَّ الرَّاحَةِ يُوقِعُهُمْ فِي تَعَبٍ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَهُوَ تَعَبُ الْبِطَالَةِ وَالْكَسَلِ أَوِ الْعَمَلِ الِاضْطِرَارِيِّ، وَمَنْ لَا يَذُوقُ لَذَّةَ الْعَمَلِ الِاخْتِيَارِيِّ لَا يَذُوقُ لَذَّةَ الرَّاحَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَضَعِ الرَّاحَةَ فِي غَيْرِ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا سَعَادَةُ الدُّنْيَا بِصِحَّةِ الْجِسْمِ وَالْعَقْلِ وَأَدَبِ النَّفْسِ الَّذِي يُرْشِدُ إِلَيْهِ الدِّينُ، فَمَنْ فَقَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَقَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَ (ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) .
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 204
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست