responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 203
هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الْعَهْدِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ الْعَامُّ الشَّامِلُ، وَالْأَسَاسُ لِلْقِسْمِ الثَّانِي الْمُكَمِّلِ الَّذِي هُوَ الدِّينُ، فَالْعَهْدُ فِطْرِيٌّ خُلُقِيٌّ، وَدِينِيٌّ شَرْعِيٌّ، فَالْمُشْرِكُونَ نَقَضُوا الْأَوَّلَ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يَقُومُوا بِحَقِّهِ نَقَضُوا الْأَوَّلَ وَالثَّانِي جَمِيعًا، وَأَعْنِي بِالنَّاقِضِينَ مَنْ أَنْكَرَ الْمَثَلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْمِيثَاقُ: اسْمٌ لِمَا يُوَثَّقُ بِهِ الشَّيْءُ وَيَكُونُ مُحْكَمًا يَعْسُرُ نَقْضُهُ، وَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ وَثَّقَ الْعَهْدَ الْفِطْرِيَّ بِجَعْلِ الْعُقُولِ بَعْدَ الرُّشْدِ قَابِلَةً لِإِدْرَاكِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْخَلْقِ، وَوَثَّقَ الْعَهْدَ الدِّينِيَّ بِمَا أَيَّدَ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالْأَحْكَامِ الْمُحْكَمَاتِ، وَقَدْ وَثَّقَ الْعَهْدَ الْأَوَّلَ بِالْعَهْدِ الثَّانِي أَيْضًا، فَمَنْ أَنْكَرَ بَعْثَةَ الرُّسُلِ وَلَمْ يَهْتَدِ بِهَدْيِهِمْ فَهُوَ نَاقِضٌ لِعَهْدِ اللهِ فَاسِقٌ عَنْ سُنَنِهِ فِي تَقْوِيمِ الْبِنْيَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَإِنْمَائِهَا، وَإِبْلَاغِ قُوَاهَا وَمَلَكَاتِهَا حَدَّ الْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ الْمُمْكِنِ لَهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) فَفِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ نَحْوُ مَا فِي نَقْضِ الْعَهْدِ،
وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَاهُ عَلَى طَرِيقِ التَّأْكِيدِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَصْفٌ مُسْتَقِلٌّ جَاءَ مُتَمِّمًا لِمَا سَبَقَهُ، وَهَذَا الْأَمْرُ نَوْعَانِ: أَمْرُ تَكْوِينٍ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْخَلْقُ مِنَ النِّظَامِ وَالسُّنَنِ الْمُحْكَمَةِ، وَقَدْ سَمَّى اللهَ - تَعَالَى - التَّكْوِينَ أَمْرًا بِمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (كُنْ) وَأَمْرُ تَشْرِيعٍ وَهُوَ مَا أَوْحَاهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْأَخْذِ بِهِ، وَمِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ تَرْتِيبُ النَّتَائِجِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ وَوَصْلُ الْأَدِلَّةِ بِالْمَدْلُولَاتِ، وَإِفْضَاءُ الْأَسْبَابِ إِلَى الْمُسَبِّبَاتِ، وَمَعْرِفَةُ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ بِالْغَايَاتِ، فَمَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ بَعْدَ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِهِ أَوْ أَنْكَرَ سُلْطَانَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ بَعْدَ مَا شَهِدَتْ لَهُ بِهَا آثَارُهُ فِي خَلْقِهِ، فَقَدْ قَطَعَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ بِمُقْتَضَى التَّكْوِينِ الْفِطْرِيِّ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا عُلِمَ أَنَّهُ جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنَ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ فَفِيهِ الْقَطْعُ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فَفِيهِ الْقَطْعُ بَيْنَ الْمَبَادِئِ وَالْغَايَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ الدِّينُ بِهِ قَطْعًا فَهُوَ نَافِعٌ وَمَنْفَعَتُهُ تُثْبِتُهَا التَّجْرِبَةُ وَالدَّلِيلُ، وَكُلُّ مَا نَهَى عَنْهُ حَتْمًا فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُهُ مُضِرَّةً، فَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ هُمُ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ بِغَايَتِهِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ - تَعَالَى - وَبِالنُّبُوَّةِ فَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ بِهِ بِمُقْتَضَى التَّكْوِينِ وَالنِّظَامِ الْفِطْرِيِّ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ فَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كُتُبِهِ أَمْرَ تَشْرِيعٍ وَتَكْلِيفٍ، وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ تَدْخُلُ فِي كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ.
إِذَا كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ قَدْ نَقَضُوا عَهْدَ الْفِطْرَةِ وَقَطَعُوا مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ بِمُقْتَضَاهَا بِتَكْذِيبِهِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِيذَائِهِ وَهُوَ ذُو رَحِمٍ بِهِمْ، فَالْمُكَذِّبُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ قَدْ قَطَعُوا صِلَاتَ الْأَمْرَيْنِ كَمَا نَقَضُوا الْعَهْدَيْنِ؛ فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ بَشَّرَهُمْ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لِلْمُبَشَّرِ بِهِ صِفَاتٍ وَأَعْمَالًا وَأَحْوَالًا تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَتَمَّ الِانْطِبَاقِ، فَحَرَّفُوا وَأَوَّلُوا وَاجْتَهَدُوا فِي صَرْفِهَا عَنْهُ وَهُمْ مُتَعَمِّدُونَ (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لِيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (2: 146) وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَالْعَلَامَاتِ عَلَى غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ يَنْتَظِرُ مَبْعُوثًا آخَرَ يَجِيءُ الزَّمَانُ بِهِ.

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 203
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست