responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 194
بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي تُرْشِدُ إِلَيْهِ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، وَيَهْدِي إِلَى تَحْدِيدِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَسُنَّةُ الرَّسُولِ الْمُتَّبَعَةُ.
بَشِّرْهُمْ (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) وَرَدَ لَفْظُ الْجَنَّةِ وَالْجَنَّاتِ كَثِيرًا فِي مُقَابَلَةِ النَّارِ، وَالْجَنَّةُ فِي اللُّغَةِ: الْبُسْتَانُ، وَالْجَنَّاتُ جَمْعُهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمَا مَفْهُومَهُمَا اللُّغَوِيَّ فَقَطْ، وَإِنَّمَا هُمَا دَارَا الْخُلُودِ فِي النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، فَالْجَنَّةُ دَارُ الْأَبْرَارِ وَالْمُتَّقِينَ، وَالنَّارُ دَارُ الْفُجَّارِ وَالْفَاسِقِينَ، فَنُؤْمِنُ بِهِمَا بِالْغَيْبِ وَلَا نَبْحَثُ فِي حَقِيقَةِ أَمْرِهِمَا، وَلَا نَزِيدُ
عَلَى النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ فِيهِمَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ عَالَمَ الْغَيْبِ لَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ.
وَمِمَّا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْجَنَّاتِ قَوْلُهُ: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّ الْبَسَاتِينَ حَيَاتُهَا بِالْأَنْهَارِ (قَالَ شَيْخُنَا) : وَهَلْ سُمِّيَتْ دَارُ النَّعِيمِ جَنَّةً وَجَنَّاتٍ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ وَذُكِرَتِ الْأَنْهَارُ تَرْشِيحًا لَهُ أَمْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْجَنَّاتِ تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِاسْمِ الْبَعْضِ؟ اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، وَأَقُولُ: لَوْ لَمْ يَرِدْ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا ذِكْرُ الْجَنَّةِ أَوِ الْجَنَّاتِ لَوَجَبَ التَّفْوِيضُ وَامْتَنَعَ التَّرْجِيحُ، أَمَا وَقَدْ ذُكِرَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنْوَاعٌ مِنَ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ وَذُكِرَ الثَّمَرَاتُ، فَقَدْ تَعَيَّنَ تَرْجِيحُ الشِّقِّ الثَّانِي، وَإِلَّا كَانَ هَرَبُنَا مِنْ تَشْبِيهِ أَسْرَى الْأَلْفَاظِ عَالَمَ الْغَيْبِ بِعَالَمِ الشَّهَادَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إِلَى تَأْوِيلَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ الْمُعَطِّلِينَ لِدَلَالَتِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ ذَكَرَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ تِلْكَ الْجَنَّاتِ فِيهَا أَنَّهُمْ (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا) كَلِمَةُ " مِنْ " الْأُولَى لِلِابْتِدَاءِ وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنَ الْجَنَّاتِ رِزْقًا مِنْ بَعْضِ الثِّمَارِ (قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) أَيْ هَذَا الَّذِي وُعِدْنَا بِهِ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) (39: 74) وَذَهَبَ الْجَلَالُ وَغَيْرُهُ إِلَى اخْتِيَارِ أَنَّ مَعْنَاهُ تَشْبِيهُ ثَمَرَاتِ الْآخِرَةِ بِثَمَرَاتِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا مِثْلُهَا فِي اللَّوْنِ وَالشَّكْلِ وَالرَّائِحَةِ، وَإِنْ كَانَتْ تَفْضُلُهَا فِي الطَّعْمِ وَاللَّذَّةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) بَيَانٌ لِسَبَبِ الْقَوْلِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، أَيْ أُتُوا بِمَا ذُكِرَ مِنَ الرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُتَشَابِهًا بَعْضُهُ يُشْبِهُ بَعْضًا، وَمُحَصِّلُهُ: أَنَّهُمْ عِنْدَمَا يُؤْتَوْنَ بِرِزْقِ الْجَنَّةِ يُبَادِرُونَ إِلَى الْحُكْمِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَا وُعِدُوا بِهِ وَأَنَّهُ عَيْنُ رِزْقِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ التَّشَابُهَ يَكُونُ سَبَبَ الِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْفَرْقَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالطَّعْمِ؛ لِأَنَّ فَرْقًا عَظِيمًا بَيْنَ لَذَّةِ رِزْقِ الدُّنْيَا وَرِزْقِ الْجَنَّةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِـ " كُلَّمَا " يُنَافِي هَذَا التَّفْسِيرَ؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ يَعْرِفُونَ التَّفَاوُتَ مَعْرِفَةً تَذْهَبُ بِهِ وَتَمْنَعُ مِنَ الْحُكْمِ بِأَنَّ هَذَا عَيْنُ ذَاكَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِأَفْرَادِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ الثِّمَارِ فَبِالِاخْتِيَارِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعْدَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَنْوَاعِ فَبِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَلَالُ مُنَافٍ لِلْبَلَاغَةِ فِي الْمَعْنَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ
تَشَابُهَ رِزْقَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي الْأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ، وَاخْتِلَافَهُ فِي الطَّعْمِ فَقَطْ لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ تَشْوِيقٍ،

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 194
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست