responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 193
فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلَّقَ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِينَ كَمَا قُلْنَا، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا: مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِجْمَالًا مِنَ الْأُصُولِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ عَرَفُوهُ مُفَصَّلًا تَفْصِيلًا.
ثُمَّ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْبِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وَأَطْلَقَ فِي هَذَا أَيْضًا كَمَا أَطْلَقَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ بِالْإِجْمَالِ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ وَجَعْلِهِ تَابِعًا لِلْإِيمَانِ مُتَّصِلًا بِهِ وَلَازِمًا مِنْ لَوَازِمِهِ، وَبَيَّنَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ بِالتَّفْصِيلِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَيْسَ الْبَرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) إِلَخْ وَكَالْآيَاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ (الْمُؤْمِنُونَ) وَآخِرِهَا وَآخِرِ سُورَةِ (الْفُرْقَانِ) وَأَوَائِلِ سُورَةِ (الْمَعَارِجِ) وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ أَوْدَعَ فِي نُفُوسِهِمْ مَا يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَضِلُّ بِانْحِرَافٍ يَطْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ فَيُخْرِجُهَا عَنِ الِاعْتِدَالِ الْفِطْرِيِّ ثُمَّ يَضِلُّ بِضَلَالِهِ آخَرُونَ، فَتَكُونُ التَّقَالِيدُ وَالْعَادَاتُ النَّاشِئَةُ عَنْ هَذَا الضَّلَالِ هِيَ الْمِيزَانُ عِنْدَ الضَّالِّينَ فِي مَعْرِفَةِ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ لَا أَصْلُ الْهِدَايَةِ الْفِطْرِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى
الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، يَعْنِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ تُرِكَ وَنَفْسَهُ لَاهْتَدَى إِلَى الْحَقِّ مَادَامَ بَعِيدًا عَنِ التَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ، وَقَدْ بَلَغَ فَسَادُ الطِّبَاعِ وَانْحِرَافُ الْفِطْرَةِ فِي بَعْضِ الْأُمَمِ مَبْلَغًا كَادُوا يَخْرُجُونَ بِهِ عَنْ طَوْرِ الْبَشَرِ، كَمُتَنَطِّعِي الْبَرَاهِمَةِ إِذْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ كَمَالَ الْأَرْوَاحِ وَسَعَادَتَهَا إِنَّمَا هُوَ فِي تَعْذِيبِ الْأَبْدَانِ وَحِرْمَانِهَا مِنْ لَذَّاتِهَا؛ وَلِذَلِكَ جَدُّوا فِي الْبُعْدِ عَنِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ بِأَنْوَاعِهَا فَمَالُوا عَنْ سُنَنِ الِاعْتِدَالِ، وَمَنَّوْا أَبْدَانَهُمْ وَعُقُولَهُمْ بِالْفَسَادِ وَالِاعْتِلَالِ، وَكَبَعْضِ كَفَرَةِ الْعَرَبِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْبَرَاهِمَةِ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا خَيْرَ إِلَّا فِي اللَّذَّةِ الْبَدَنِيَّةِ وَلَا شَرَّ إِلَّا فِي الْأَلَمِ الْجَسَدَانِيِّ، فَالسَّعَادَةُ وَالْكَمَالُ عِنْدَهُمْ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْآلَامِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالشَّهَوَاتِ الْحِسِّيَّةِ، فَمَثَلُ هَؤُلَاءِ الْمَرْضَى النُّفُوسِ الْمَحْرُومِينَ مِنَ الْكَمَالِ الرُّوحِيِّ وَالْعَقْلِيِّ كَمَثَلِ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الصَّفْرَاءُ فَصَارَ يَذُوقُ الْحُلْوَ مُرًّا، وَإِنَّ مِنَ الْمَرْضَى مَنْ يَشْتَهِي فِي طَوْرِ النَّقَهِ مَا لَا يَشْتَهِي فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالِاعْتِدَالِ، وَكَذَلِكَ الْحَبَالَى فِي مُدَّةِ الْوَحَمِ:
يَرَى الْجُبَنَاءُ أَنَّ الْجُبْنَ حَزْمٌ ... وَتِلْكَ خَدِيعَةُ الطَّبْعِ اللَّئِيمِ
فَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَالصَّلَاحُ وَالْفَسَادُ وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَالْفَضِيلَةُ وَالرَّذِيلَةُ كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى عِنْدَ الْأَشْرَارِ، وَلِذَلِكَ يَدَّعُونَ الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ وَيُنْكِرُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِذِكْرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ لَيْسَ مُبْهَمًا عِنْدَهُمْ، وَلَا خِطَابًا بِغَيْرِ مَفْهُومٍ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ مُعْتَلُّ الْفِطْرَةِ إِلَى التَّفْصِيلِ فِي ذَلِكَ، وَذِكْرِ الْأَمَارَاتِ وَالدَّلَائِلِ الَّتِي تُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّالِحِينَ وَالْفَاسِقِينَ، وَالْمُحِقِّينَ وَالْمُبْطِلِينَ، وَلِهَذَا نَزَلَتْ آيَاتُ الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا آنِفًا، وَبِهَا يَنْقَطِعُ تَلْبِيسُ الْأَغْبِيَاءِ، وَاعْتِذَارُ الْجُهَلَاءِ، وَحَقَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الْبِشَارَةَ هُوَ مَنْ جَمَعَ

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 193
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست