responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 5  صفحة : 133
وَشَمَلَتِ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ مَا كَانَ مِنَ الْأَعْيَانِ، كَالْمَطَرِ وَالصَّوَاعِقِ، وَالثَّمَرَةِ وَالْجَرَادِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْأَعْرَاضِ كَالصِّحَّةِ، وَهُبُوبِ الصَّبَا، وَالرِّبْحِ فِي التِّجَارَةِ. وَأَضْدَادِهَا كَالْمَرَضِ، وَالسَّمُومِ الْمُهْلِكَةِ، وَالْخَسَارَةِ. وَفِي هَذَا النَّوْعِ كَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَالطَّاعَاتِ النَّافِعَةِ لِلطَّائِعِ وَغَيْرِهِ، وَالْمَعَاصِي الضَّارَّةِ بِهِ وَبِالنَّاسِ، وَفِي هَذَا الْأَمْرِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ: 50] وَهُوَ عَلَى نَحْوِ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَازِلَةً فِيهِ.
وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ دَقِيقَةَ الْفَهْمِ نَبَّهَ اللَّهُ عَلَى قِلَّةِ فَهْمِهِمْ لِلْمَعَانِي الْخَفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً، فَقَوْلُهُ: لَا يَكادُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى نَظَائِرِهِ مِنَ اعْتِبَارِ الْقَلْبِ، أَيْ يَكَادُونَ لَا يَفْقَهُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَة: 71] فَيَكُونُ فِيهِ اسْتِبْقَاءٌ عَلَيْهِمْ فِي الْمَذَمَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِ وَضْعِ التَّرْكِيبِ، أَيْ لَا يُقَارِبُونَ فَهْمَ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَعْقِلُهُ إِلَّا الْفُطَنَاءُ، فَيَكُونُ أَشَدَّ فِي الْمَذَمَّةِ.
وَالْفِقْهُ فَهْمُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى إِعْمَالِ فِكْرٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: «هُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى عِلْمٍ غَائِبٍ بِعِلْمٍ شَاهِدٍ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ» . وَعَرَّفَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ «إِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ» .
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ، وَهَذَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِتَنَاسُقِ الضمائر، ثمَّ يعلم أَنَّ غَيْرَهُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ شَاعَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ لِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا شَاعَ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ الْمَعْصِيَةَ وَالشَّرَّ لِقَوْلِهِ: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ شَبِيبُ بْنُ حَيْدَرَةَ الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِ «حَزِّ الْغَلَاصِمِ» : إِنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهَا فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ جَهْلٌ لِابْتِنَائِهِ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ هِيَ الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ، وَلَيْسَتَا كَذَلِكَ.
وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهَا إِلَّا قَوْلًا بِمُوجَبِ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَا عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ اكْتِسَابِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ عَلَى أَنَّ عُمُومَ مَعْنَى الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ- كَمَا بَيَّنْتُهُ

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 5  صفحة : 133
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست