responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 5  صفحة : 130
يَقُولُونَ: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ، فَيَكُونُ الْإِتْيَانُ بِكَافِ الْخِطَابِ مِنْ قَبِيلِ حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ بِحَاصِلِ مَعْنَاهُ عَلَى حَسَبِ مَقَامِ الْحَاكِي وَالْمَحْكِيِّ لَهُ، وَهُوَ وَجْهٌ مَطْرُوقٌ فِي حِكَايَةِ كَلَامِ الْغَائِبِ عَنِ الْمُخَاطَبِ إِذَا حَكَى كَلَامَهُ لِذَلِكَ الْمُخَاطَبِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [الْمَائِدَة: 117] . وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبَّكَ وَرَبَّهُمْ. وَوَرَدَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُمُ الْيَهُودُ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهِ مَعْرُوفُونَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَقَدِيمًا قِيلَ لِأَسْلَافِهِمْ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَاف: 131] . وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ هُنَا مَا تَعَارَفَهُ الْعَرَبُ مِنْ قِبَلِ اصْطِلَاحِ الشَّرِيعَةِ أَعْنِي الْكَائِنَةِ الْمُلَائِمَةِ والكائنة المنافرة، كَقَوْلِهِم: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَاف: 131] وَقَوْلُهُ:
رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً [الْبَقَرَة: 201] ، وَتَعَلُّقُ فِعْلِ الْإِصَابَةِ بِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ بِالِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ، أَعْنِي الْفِعْلَ الْمُثَابَ عَلَيْهِ وَالْفِعْلَ الْمُعَاقَبَ عَلَيْهِ، فَلَا مَحْمَلَ لَهُمَا هُنَا إِذْ لَا يَكُونَانِ إِصَابَتَيْنِ، وَلَا تُعْرَفُ إِصَابَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا اعْتِبَارَانِ شَرْعِيَّانِ.
وَقيل: كَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ: «لَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ الْمَدِينَةَ قَلَّتِ الثِّمَارُ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ» . فَجَعَلُوا كَوْنَ الرَّسُولِ بِالْمَدِينَةِ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي حُدُوثِ السَّيِّئَاتِ، وَأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَكَانَتِ الْحَوَادِثُ كُلُّهَا جَارِيَةً عَلَى مَا يُلَائِمُهُمْ، وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ كَلِمَةُ (عِنْدَ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ إِذِ
الْعِنْدِيَّةُ هُنَا عِنْدِيَّةُ التَّأْثِيرِ التَّامِّ بِدَلِيلِ التَّسْوِيَةِ فِي التَّعْبِيرِ، فَإِذَا كَانَ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَعْنَاهُ مِنْ تَقْدِيرِهِ وَتَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ، فَكَذَلِكَ مُسَاوِيهِ وَهُوَ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْعَرَبِ: يَقُولُونَهُ إِذَا أَرَادُوا الِارْتِدَادَ وَهُمْ أَهْلُ جَفَاءٍ وَغِلْظَةٍ، فَلَعَلَّ فِيهِمْ مَنْ شَافَهَ الرَّسُولَ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ. وَمَعْنَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ الَّذِي سَاقَهَا إِلَيْهِمْ وَأَتْحَفَهُمْ بِهَا لِمَا هُوَ مُعْتَادُهُ مِنَ الْإِكْرَامِ لَهُمْ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ قَائِلُ ذَلِكَ الْيَهُودَ. وَمَعْنَى مِنْ عِنْدِكَ أَيْ مِنْ شُؤْمِ قُدُومِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُعَامِلُهُمْ إِلَّا بِالْكَرَامَةِ، وَلَكِنَّهُ صَارَ يَتَخَوَّلَهُمْ بِالْإِسَاءَةِ لِقَصْدِ أَذَى الْمُسْلِمِينَ فَتَلْحَقُ الْإِسَاءَةُ الْيَهُودَ مِنْ جَرَّاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَدِّ وَاتَّقُوا فِتْنَةً [الْأَنْفَال:
25] الْآيَةَ.

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 5  صفحة : 130
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست