responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 4  صفحة : 22
عَامَ الْخَنْدَقِ، بَعْدَ انْصِرَافِ الْأَحْزَابِ، وَكَانَ انْصِرَافُهُمْ آخِرَ سِنَةِ خَمْسٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَوَلِيَ تِلْكَ الْحَجَّةَ الْمُشْرِكُونَ. وَفِي مُقَدِّمَاتِ ابْنِ رُشْدٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: إِنَّ الْحَجَّ وَجَبَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَأَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلٌ رَابِعٌ تَمَالَأَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَهُوَ أَنَّ دَلِيلَ وُجُوبِ الْحَجِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَا عَلَى أَنَّ وُجُوبَهُ عَلَى التَّرَاخِي، فَيَكُونُ وُجُوبُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَقَرَّرَ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَأَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ مُنْذُ يَوْمَئِذٍ مُحْصَرِينَ عَنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ إِلَى أَنْ فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ وَوَقَعَتْ حَجَّةُ سَنَةِ تِسْعٍ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ صِيَغِ الْوُجُوبِ صِيغَتَانِ: لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَحَرْفُ (عَلَى) الدَّالُّ عَلَى تَقَرُّرِ حَقٍّ فِي ذِمَّةِ الْمَجْرُورِ بِهَا. وَقَدْ تَعَسَّرَ أَوْ تَعَذَّرَ قِيَامُ الْمُسْلِمِينَ بِأَدَاءِ الْحَجِّ عَقِبَ نُزُولِهَا، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَسْمَحُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَلَعَلَّ حِكْمَةَ إِيجَابِ الْحَجِّ يَوْمَئِذَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِأَدَاءِ الْحَجِّ مَهْمَا تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ، وَلِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ، وَيَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَيَمْنَعُونَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ.
وَقَوْلُهُ: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ لِتَقْيِيدِ حَالِ الْوُجُوبِ، وَجَوَّزَ الْكِسَائِيُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَ حَجُّ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ يَصِيرُ الْكَلَامُ: لِلَّهِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ أَنْ يَحُجَّ الْمُسْتَطِيعُ مِنْهُمْ، وَلَا مَعْنَى لِتَكْلِيفِ جَمِيعِ النَّاسِ بِفِعْلِ بَعْضِهِمْ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا الرَّدَّ لَا يَتَّجِهُ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَتَفَنَّنُ فِي الْكَلَامِ لِعِلْمِ السَّامِعِ بِأَنَّ فَرْضَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ فَرْضٌ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ فَاعِلُ حَجَّ، وَلَيْسَ هُوَ كَقَوْلِكَ: اسْتَطَاعَ الصَّوْمَ، أَوِ اسْتَطَاعَ حَمْلَ الثِّقْلِ، وَمعنى اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَجَدَ سَبِيلًا وَتَمَكَّنَ مِنْهُ، وَالْكَلَامُ بِأَوَاخِرِهِ. وَالسَّبِيلُ هُنَا مَجَازٌ فِيمَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمُكَلَّفُ مِنَ الْحَجِّ.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ السَّبِيلِ أَقْوَالٌ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهَا، وَاتَّحَدَتْ أَغْرَاضُهَا، فَلَا يَنْبَغِي بَقَاءُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِهَا مُثْبَتًا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهَا، فَسَبِيلُ الْقَرِيبِ مِنَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ سَهْلٌ جِدًّا، وَسَبِيلُ الْبَعِيدِ الرَّاحِلَةُ وَالزَّادُ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: السَّبِيلُ الْقُدْرَةُ وَالنَّاسُ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ وَسَيْرِهِمْ وَجَلَدِهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 4  صفحة : 22
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست