responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 544
تَكَاثُرَ الْحِيتَانِ يَوْمَ السَّبْتِ بِالشَّاطِئِ لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَرَ سُفُنَ الصَّيَّادِينَ وَشِبَاكَهُمْ أَمِنَتْ فَتَقَدَّمَتْ إِلَى الشَّاطِئِ تَفْتَحُ أَفْوَاهَهَا فِي الْمَاءِ لِابْتِلَاعِ مَا يَكُونُ عَلَى الشَّوَاطِئِ مِنْ آثَارِ الطَّعَامِ وَمِنْ صَغِيرِ الْحِيتَانِ وَغَيْرِهَا فَقَالُوا لَوْ حَفَرْنَا لَهَا حِيَاضًا وَشَرَعْنَا إِلَيْهَا جَدَاوِلَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَتُمْسِكُ الْحِيَاضُ الْحُوتَ إِلَى يَوْمِ الْأَحَدِ فَنَصْطَادُهَا وَفَعَلُوا ذَلِكَ فَغَضِبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لِهَذَا الْحِرْصِ عَلَى الرِّزْقِ أَوْ لِأَنَّهُمْ يَشْغَلُونَ بِالَهُمْ يَوْمَ السَّبْتَ بِالْفِكْرِ فِيمَا تَحَصَّلَ لَهُمْ أَوْ لِأَنَّهُمْ تَحَيَّلُوا عَلَى اعْتِيَاضِ الْعَمَلِ فِي السَّبْتِ، وَهَذَا الَّذِي أَحْسَبُهُ لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ عَلِمُوا مَا لَمْ تَهْتَدِ إِلَيْهِ شَرِيعَتُهُمْ فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا ذَكَرَهُ هُنَا.
فَقَوْلُهُ: فِي السَّبْتِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ. وَالسَّبْتُ مَصْدَرُ سَبَتَ الْيَهُودِيُّ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَنَصَرَ بِمَعْنَى احْتَرَمَ السَّبْتَ وَعَظَّمَهُ. وَالْمَعْنَى اعْتَدَوْا فِي حَالِ تَعْظِيمِ السَّبْتِ أَوْ فِي زَمَنِ تَعْظِيمِ السَّبْتِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (فِي) لِلْعِلَّةِ أَيِ اعْتَدَوُا اعْتِدَاءً لِأَجْلِ مَا أَوْجَبَهُ احْتِرَامُ السَّبْتِ مِنْ قَطْعِ الْعَمَلِ. وَلَعَلَّ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ فِيهِ لِيَكُونَ أَمْنًا لِلدَّوَابِّ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (فِي) ظَرْفِيَّةً وَالسَّبْتُ بِمَعْنَى الْيَوْمِ وَإِنَّمَا جُعِلَ الِاعْتِدَاءُ فِيهِ مَعَ أَنَّ
الْحَفْرَ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةَ لِأَنَّ أَثَرَهُ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْعِصْيَانُ وَهُوَ دُخُولُ الْحِيتَانِ لِلْحِيَاضِ يَقَعُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ.
وَقَوْلُهُ: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ كُونُوا أَمْرُ تَكْوِينٍ وَالْقِرَدَةُ- بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ- جَمْعُ قِرْدٍ وَتَكْوِينُهُمْ قِرَدَةً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِتَصْيِيرِ أَجْسَامِهِمْ أَجْسَامَ قِرَدَةٍ مَعَ بَقَاءِ الْإِدْرَاكِ الْإِنْسَانِيِّ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِتَصْيِيرِ عُقُولِهِمْ كَعُقُولِ الْقِرَدَةِ مَعَ بَقَاءِ الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْعِبْرَةُ حَاصِلَةٌ عَلَى كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْعِبْرَةِ لِأَنَّ فِيهِ اعْتِبَارَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَاعْتِبَارَ النَّاسِ بِهِمْ بِخِلَافِ الثَّانِي وَالثَّانِي أَقْرَبُ لِلتَّارِيخِ إِذْ لَمْ يُنْقَلْ مَسْخٌ فِي كُتُبِ تَارِيخِ الْعِبْرَانِيِّينَ، وَالْقُدْرَةُ صَالِحَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ وَالْكُلُّ مُعْجِزَةٌ لِلشَّرِيعَةِ أَوْ لِدَاوُدَ وَلِذَلِكَ قَالَ الْفَخْرُ: لَيْسَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ بِبَعِيدٍ جِدًّا لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنَ الْآيَةِ وَلَيْسَ الْآيَةُ صَرِيحَةً فِي الْمَسْخِ.
وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ قِرَدَةً أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَتَلَقَّوُا الشَّرِيعَةَ بِفَهْمِ مَقَاصِدِهَا وَمَعَانِيهَا وَأَخَذُوا بِصُورَةِ الْأَلْفَاظِ فَقَدْ أَشْبَهُوا الْعَجْمَاوَاتِ فِي وُقُوفِهَا عِنْدَ الْمَحْسُوسَاتِ فَلَمْ يَتَمَيَّزُوا عَنِ الْعَجْمَاوَاتِ إِلَّا بِالشَّكْلِ الْإِنْسَانِيِّ وَهَذِهِ الْقِرَدَةُ تُشَارِكُهُمْ فِي هَذَا الشَّبَهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ هُوَ مَسْخُ قُلُوبٍ لَا مَسْخُ ذَوَاتٍ.

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 544
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست