responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 483
فَلِلتَّكْرِيرِ هُنَا نُكْتَةُ جَمْعِ الْكَلَامَيْنِ بَعْدَ تَفْرِيقِهِمَا وَنُكْتَةُ التَّعْدَادِ لِمَا فِيهِ إِجْمَالُ مَعْنَى النِّعْمَةِ.
وَالنِّعْمَةُ هَنَا مُرَادٌ بِهَا جَمِيعُ النِّعَمِ لِأَنَّهُ جِنْسٌ مُضَافٌ فَلَهُ حُكْمُ الْجَمْعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ
[الْبَقَرَة: 40] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ عَطْفٌ عَلَى نِعْمَتِيَ أَيْ وَاذْكُرُوا تَفْضِيلِي إِيَّاكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَهَذَا التَّفْضِيلُ نِعْمَةٌ خَاصَّةٌ فَعَطْفُهُ عَلَى (نِعْمَتِي) عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ وَهُوَ مبدأ لتفصيل النِّعَمِ وَتَعْدَادِهَا وَرُبَّمَا كَانَ تَعْدَادُ النِّعَمِ مُغْنِيًا عَنِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ لِأَنَّ مِنْ طَبْعِ النُّفُوسِ الْكَرِيمَةِ امْتِثَالُ أَمْرِ الْمُنْعِمِ لِأَنَّ النِّعْمَةَ تُورِثُ الْمَحَبَّةَ. وَقَالَ مَنْصُورٌ الْوَرَّاقُ:
تَعْصَى الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ

لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
وَهَذَا التَّذْكِيرُ مَقْصُودٌ بِهِ الْحَثُّ عَلَى الِاتِّسَامِ بِمَا يُنَاسِبُ تِلْكَ النِّعْمَةَ وَيَسْتَبْقِي ذَلِكَ الْفَضْلَ.
وَمَعْنَى الْعَالمين تقدم عَنهُ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: 2] وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا صِنْفٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ تُصَنَّفُ أَصْنَافًا مُتَنَوِّعَةً عَلَى حَسَبِ تَصْنِيفِ الْمُتَكَلِّمِ أَوِ السَّامِعِ، فَالْعَالَمُونَ فِي مَقَامِ ذِكْرِ الْخَلْقِ هُمْ أَصْنَافُ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ وَالْحُوتِ، وَالْعَالَمُونَ فِي مَقَامِ ذِكْرِ فَضَائِلِ الْخَلْقِ أَوِ الْأُمَمِ أَوِ الْقَبَائِلِ يُرَادُ بِهَا أَصْنَافُ تِلْكَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهَا فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَالَمِينَ هُنَا هُمُ الْأُمَمَ الْإِنْسَانِيَّةَ فَيَعُمَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ لَكِنَّ عُمُومَهُ هُنَا عُرْفِيٌّ يَخْتَصُّ بِأُمَمِ زَمَانِهِمْ كَمَا يَخْتَصُّ نَحْوَ: جَمْعِ الْأَمِيرِ الصَّاغَةَ بِصَاغَةِ مَكَانِهِ أَيْ بَلَدِهِ وَيَخْتَصُّ أَيْضًا بِالْأُمَمِ الْمَعْرُوفَةِ كَمَا يَخْتَصُّ جَمْعُ الْأَمِيرِ الصَّاغَةَ بِالصَّاغَةِ الْمُتَّخِذِينَ الصِّيَاغَةَ صِنَاعَةً دُونَ كُلِّ مَنْ يَعْرِفُ الصِّيَاغَةَ وَذَلِكَ كَقَوْلِكَ: هُوَ أَشْهَرُ الْعُلَمَاءِ وَأَنْجَبُ التَّلَامِذَةِ، فَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى تَفْضِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُخَاطَبِينَ أَوْ سَلَفِهِمْ عَلَى أُمَمِ عَصْرِهِمْ لَا عَلَى بَعْضِ الْجَمَاعَاتِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينٍ كَامِلٍ مِثْلَ نَصَارَى نَجْرَانَ، فَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِمَسْأَلَةِ تَفْضِيلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِحَالٍ وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا يَشِذُّ فِي كُلِّ أُمَّةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْأَفْرَادِ فَلَا يَلْزَمُ تَفْضِيلُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَفْرَادٍ مِنَ الْأُمَمِ بَلَغُوا مَرْتَبَةً صَالِحَةً أَوْ نُبُوءَةً لِأَنَّ التَّفْضِيلَ فِي مِثْلِ هَذَا يُرَادُ بِهِ تَفْضِيلُ الْمَجْمُوعِ، كَمَا تَقُولُ قُرَيْشٌ أَفْضَلُ مِنْ طَيء وَإِن كَانَ فِي طَيِّءٍ حَاتِمٌ الْجَوَادُ.

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 483
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست