responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 354
وَالْجَرْيُ حَقِيقَتُهُ سُرْعَةٌ شَدِيدَةٌ فِي الْمَشْيِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى سَيْلِ الْمَاءِ سَيْلًا مُتَكَرِّرًا مُتَعَاقِبًا وَأَحْسَنُ الْمَاءِ مَا كَانَ جَارِيًا غَيْرَ قَارٍّ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ جَدِيدًا كُلَّمَا اغْتَرَفَ مِنْهُ شَارِبٌ أَوِ اغْتَسَلَ مُغْتَسِلٌ.
وَالْأَنْهَارُ جَمْعُ نَهَرٍ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِهَا وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَالنَّهْرُ الْأُخْدُودُ الْجَارِي فِيهِ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مَادَّةِ نَهَرَ الدَّالَّةِ عَلَى الِانْشِقَاقِ وَالِاتِّسَاعِ وَيَكُونُ كَبِيرًا وَصَغِيرًا. وَأَكْمَلُ مَحَاسِنِ الْجَنَّاتِ جَرَيَانُ الْمِيَاهِ فِي خِلَالِهَا وَذَلِكَ شَيْءٌ اجْتَمَعَ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَنْفَسِ الْمَنَاظِرِ لِأَنَّ فِي الْمَاءِ طَبِيعَةَ الْحَيَاةِ وَلِأَنَّ النَّاظِرَ يَرَى مَنْظَرًا بَدِيعًا وَشَيْئًا لَذِيذًا.
وَأَوْدَعَ فِي النُّفُوسِ حُبَّ ذَلِكَ فَإِمَّا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَدَّ نَعِيمَ الصَّالِحِينَ فِي الْجَنَّةِ عَلَى
نَحْوِ مَا أَلِفَتْهُ أَرْوَاحُهُمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ فَإِنَّ لِلْإِلْفِ تَمَكُّنًا مِنَ النُّفُوسِ وَالْأَرْوَاحِ بِمُرُورِهَا عَلَى هَذَا الْعَالَمِ عَالَمِ الْمَادَّةِ اكْتَسَبَتْ مَعَارِفَ وَمَأْلُوفَاتٍ لَمْ تَزَلْ تَحِنُّ إِلَيْهَا وَتَعُدُّهَا غَايَةَ الْمُنَى وَلِذَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهَا النَّعِيمَ الدَّائِمَ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ، وَإِمَّا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَبَّبَ إِلَى الْأَرْوَاحِ هَاتِهِ الْأَشْيَاءَ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهَا عَلَى نَحْوِ مَا أَلِفَتْهُ فِي الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا قَبْلَ نُزُولِهَا لِلْأَبْدَانِ لِإِلْفِهَا بِذَلِكَ فِي عَالَمِ الْمِثَالِ، وَسَبَبُ نُفْرَتِهَا مِنْ أَشْكَالٍ مُنْحَرِفَةٍ وَذَوَاتٍ بَشِعَةٍ عَدَمُ إِلْفِهَا بِأَمْثَالِهَا فِي عَوَالِمِهَا. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي ظَهَرَ لِي أَرَاهُ أَقْوَى فِي تَعْلِيلِ مَجِيءِ لَذَّاتِ الْجَنَّةِ عَلَى صُوَرِ اللَّذَّاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الدُّنْيَا وَسَيَنْفَعُنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً.
وَمَعْنَى مِنْ تَحْتِهَا مِنْ أَسْفَلِهَا وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّاتِ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِهَا الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْأَشْجَارِ وَالْأَرْضِ النَّابِتَةِ فِيهَا وَيَجُوزُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْجَنَّاتِ بِاعْتِبَارِ الْأَشْجَارِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ مَا فِي الْجَنَّاتِ، وَهَذَا الْقَيْدُ لِمُجَرَّدِ الْكَشْفِ فَإِنَّ الْأَنْهَارَ لَا تَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ وَيُفِيدُ هَذَا الْقَيْدُ تَصْوِيرَ حَالِ الْأَنْهَارِ لِزِيَادَةِ تَحْسِينِ وَصْفِ الْجَنَّاتِ كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَّةٍ ... صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهْوَ مَشْمُولُ
الْبَيْتَيْنِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» تَوْجِيهًا لِتَعْرِيفِ الْأَنْهَارِ وَمُخَالَفَتِهَا لِتَنْكِيرِ (جَنَّاتٍ) إِمَّا بِأَنْ يُرَادَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَكُونُ كَالنَّكِرَةِ وَإِمَّا بِأَنْ يُرَادَ مِنَ التَّعْرِيفِ الْعَهْدُ إِلَّا أَنَّهُ عَهْدٌ تَقْدِيرِيٌّ لِأَنَّ الْجَنَّاتِ لَمَّا ذُكِرَتِ اسْتُحْضِرَ لِذِهْنِ السَّامِعِ لَوَازِمُهَا وَمُقَارَنَاتُهَا فَسَاغَ لِلْمُتَكَلِّمِ أَنْ يُشِيرَُُ

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 354
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست