responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 275
فَذَلِكَ مِنَ الْكَرَمِ وَالْحِلْمِ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
اسْتَمْطَرُوا مِنْ قُرَيْشٍ كُلَّ مُنْخَدِعٍ ... إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا خَادَعْتَهُ انخدعا
وَفِي حَدِيث «الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ»
أَيْ مِنْ صِفَاتِهِ الصَّفْحُ وَالتَّغَاضِي حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ غِرٌّ وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِكَرِيمٍ لِدَفْعِ الْغَرِيَّةِ الْمُؤْذِنَةِ بِالْبَلَهِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ الْفِطْنَةَ لِأَنَّ أُصُولَ اعْتِقَادِهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى نَبْذِ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ تَضْلِيلُ الرَّأْيِ وَطَمْسُ الْبَصِيرَةِ أَلَا تَرَى إِلَى
قَوْلِهِ: «وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ»
مَعَ
قَوْلِهِ: «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ»
، وَكُلُّهَا تُنَادِي عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَلِيقُ بِهِ الْبَلَهُ وَأَمَّا مَعْنَى
«الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ»
فَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَّا زَكَتْ نَفْسُهُ عَنْ ضَمَائِرِ
الشَّرِّ وَخُطُورِهَا بِبَالِهِ وَحَمْلِ أَحْوَالِ النَّاسِ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ فَعَرَضَتْ لَهُ حَالَةُ اسْتِئْمَانٍ تُشْبِهُ الْغِرِّيَّةَ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
تِلْكَ الْفَتَاةُ الَّتِي عَلِقْتُهَا عَرْضًا ... إِنَّ الْحَلِيمَ وَذَا الْإِسْلَامِ يَخْتَلِبُ
فَاعْتَذَرَ عَنْ سُرْعَةِ تَعَلُّقِهِ بِهَا وَاخْتِلَابِهَا عَقْلِهِ بِكَرَمِ عَقْلِهِ وَصِحَّةِ إِسْلَامِهِ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ جَوْدَةِ الرَّأْيِ وَرِقَّةِ الْقَلْبِ فَلَا عَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَرِيعَ التَّأَثُّرِ مِنْهَا.
وَمَعْنَى صُدُورِ الْخِدَاعِ مِنْ جَانِبِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا مُخَادَعَتُهُمُ اللَّهَ تَعَالَى الْمُقْتَضِيَةُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَصَدُوا التَّمْوِيهَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْصِدُهُ عَاقِلٌ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى الضَّمَائِرِ وَالْمُقْتَضِيَةُ أَنَّ اللَّهَ يُعَامِلُهُمْ بِخِدَاعٍ، وَكَذَلِكَ صُدُورُ الْخِدَاعِ مِنْ جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُنَافِقِينَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَذْمُومِ الْفِعْلِ لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِعْلُهُ فَلَا يَسْتَقِيمُ إِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ وَلَا قَصْدُ الْمُنَافِقِينَ تَعَلُّقِهِ بِمُعَامَلَتِهِمْ لِلَّهِ كُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ تَأْوِيلًا فِي مَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ الدَّالُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ يُخادِعُونَ أَوْ فِي فَاعِلِهِ الْمُقَدَّرِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْمُصَرَّحُ بِهِ.
فَأَمَّا التَّأْوِيلُ فِي يُخادِعُونَ فَعَلَى وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَفْعُولَ خَادَعَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلْمُخَادِعِ- بِالْكَسْرِ- إِذْ قَدْ يَقْصِدُ خِدَاعَ أَحَدٍ فَيُصَادِفُ غَيْرَهُ كَمَا يُخَادِعُ أَحَدٌ وَكِيلَ أَحَدٍ فِي مَالٍ فَيُقَالُ لَهُ أَنْتَ تُخَادِعُ فُلَانًا وَفُلَانًا تَعْنِي الْوَكِيلَ وَمُوَكِّلَهُ، فَهُمْ قَصَدُوا خِدَاعَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَمَّا كَانَتْ مُخَادَعَتُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ الدِّينِ كَانَ خِدَاعُهُمْ رَاجِعًا لِشَارِعِ ذَلِكَ الدِّينِ، وَأَمَّا تَأْوِيلُ مَعْنَى خِدَاعِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُمْ فَهُوَ إِغْضَاءُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ بِوَادِرِهِمْ وَفَلَتَاتِ أَلْسُنِهِمْ وَكَبَوَاتِ أَفْعَالِهِمْ وَهَفَوَاتِهِمُ الدَّالُّ جَمِيعُهَا عَلَى نِفَاقِهِمْ حَتَّى لَمْ يَزَالُوا يُعَامِلُونَهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِذْنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَقَدْ نَهَى

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 275
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست