لذلك؛ فإنهم أحبوهم مع الله وإن كانوا يحبون الله تعالى[1].
ويقولون "لا إله إلا الله" ويصلون ويصومون، فقد أشركوا بالله في المحبة بمحبة غيره وعبادة غيره. فاتخاذهم الأنداد يحبونهم كحب الله يبطل كل قول يقولونه وكل عمل يعملونه؛ لأن المشرك لا يقبل منه عمل ولا يصح منه. وهؤلاء وإن قالوا: "لا إله إلا الله" فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة العظيمة: من العلم بمدلولها؛ لأن المشرك جاهل بمعناها، ومن جهله بمعناها جعل لله شريكا في المحبة وغيرها، وهذا هو الجهل المنافي للعلم بما دلت عليه من الإخلاص، ولم يكن صادقا في قولها؛ لأنه لم ينف ما نفته من الشرك، ولم يثبت ما أثبتته من الإخلاص، وترك اليقين أيضا؛ لأنه لو عرف معناها وما دلت عليه لأنكره أو شك فيه، ولم يقبله وهو الحق، ولم يكفر بما يعبد من دون الله؛ كما في الحديث. بل آمن بما يعبد من دون الله باتخاذه الند ومحبته له وعبادته إياه من دون الله، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [2]؛ لأنهم أخلصوا له الحب فلم يحبوا إلا إياه، ويحبون من أحب ويخلصون أعمالهم جميعا لله، ويكفرون بما عبد من دون الله.
فبهذا يتبين لمن وفقه الله تعالى لمعرفة الحق وقبوله دلالة هذه الآيات العظيمة على معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وعلى التوحيد الذي هو معناها الذي دعا إليه جميع المرسلين. فتدبر. [1] هم في الواقع ما أحبوا الله حقيقة؛ لأن حب الله لا يكون إلاعن معرفة بالله بأسمائه وصفاته. ومن أحب الله على الحقيقة لا يمكن أن يتخذ من دونه ندا. وليس معنى (كحب الله) أي كحبهم لله. ولكن معناها - والله أعلم -: يحبونهم حبا من جنس الحب الذي لا يكون إلا لله. وهو حب العبادة: غاية الحب في غاية الذل والتعظيم. فهذا هو الحب الذي ينشأ عنه الدعاء واللجأ والضراعة وطلب تفريج الكروب ونحوها، مما يجرده المؤمنون لله وحده وهم أشد حبا لله، والمشركون يجردونه لأوليائهم أو يشركونهم مع الله، ولا يرجون لله وقارا. وقال في قرة العيون: الأنداد: الأمثال والنظراء, كما قال العماد ابن كثير وغيره من المفسرين. فكل من صرف من العبادة شيئا لغير الله رغبة إليه أو رهبة منه, فقد اتخذه ندا لله؛ لأنه أشرك مع الله فيما لا يستحقه غيره. قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -: ((فتوحيد المحبوب ألا يتعدد محبوبه أي مع الله بعبادته له, وتوحيد الحب أن لا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له, فهذا الحب وإن سمي عشقا فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله وسوله أحب إليه مما سواهما, وأن لا تكون محبته لغير الله, فلا يحب إلا الله; كما في الحديث الصحيح: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار" ومحبة رسوله هي من محبته، ومحبة المرء إن كانت لله فهي من محبته, وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله مضعفة لها. ويصدق هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه - وهو الكفر- بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد. ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة؛ فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه شيئا, فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر, كان أحب إليه من نفسه. وهذه المحبة هي فوق ما يجده العشاق من محبة محبوبيهم, بل لا نظير لهذه المحبة; كما لا مثيل لمن تعلقت به, وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد, وتقتضي كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرا وباطنا, وهذا لا نظير له في محبة مخلوق ولو كان المخلوق من كان, ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في المحبة الخاصة كان شركا لا يغفره الله كما قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) . والصحيح أن معنى الآية: أن الذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم; كما تقدم أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلا, كما لا يماثل محبوبهم غيره. وكل أذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته, وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عين في محبته. انتهى. [2] سورة البقرة آية: 165.