لم يطمئن أحد منهم إلى المشركين ولا داهنهم بدينه واستمروا على عداوتهم والبراءة منهم حتى هاجروا إلى المدينة وقصتهم في السير وكتب الحديث والمغازي مشهورة:
فأين القلب المطمئن بالإيمان وهو يرغب إلى أولئك الأشرار ويتعرض لما بأيديهم[1] من حطام الدنيا ويتودد إليهم بأساجيع المدح كسجع الكهان ويقول: اكتبوا لي كذا اجعلوا لي كذا!! ونحو ذلك من صيغ الطلب كما في المكاتبات المشحونة[2] بالمديح والدعوات والتعظيمات والمجازفات الموشحة بنظم الأبيات فسبحان من لا يخفى عليه خافية من أقوال خلقه وأعمالهم؛ وفي الحديث: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" [3].
ونذكر أيضا طرفا مما يتعلق بمعنى الآية: قال العماذ بن كثير في تفسيره أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتصبر وشرح صدره بالكفر واطمأن به أنه قد غضب عليهم؛ لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه وأن لهم عذابا عظيما في الدار الآخرة؛ لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة؛ فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا, وطبع على قلوبهم فهم لا يعقلون شيئا ينفعهم وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها ولا أغنت عنهم شيئا فهم غافلون عما يراد بهم.
وأما قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرها على ما قاله بضرب وأذى وقلبه يأبى ما يقول وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه: نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه حين عذبه المشركون فواقهم على ذلك مستنكرها وروى بن جرير بسنده قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كيف تجد قلبك" قال: مطمئنا بالإيمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن عادوا فعد" [4].
1 "ط": في أيديهم.
2 "ط": الموشحة. [3] أخرجه مسلم في الصحيح رقم 2564 وابن ماجه في السنن رقم 4195 وأحمد في المسند 2/539,285 [4] تفسير القرآن العظيم 4/524.