كما نُقِلَ ذلك عن إبراهيم النّخعيّ، والشّعبيّ، ومحمد بن سيرين، وهؤلاء من أجِلّة التّابعين، ونُقِلَ ذلك عن مالك، وعنه: أنّها مباحة ليست مستحبّة ... وأمّا إذا قُدِّر [أن] مَن أتى المسجد فلم يُصَلِّ فيه، ولكن أتى القبر ثم رجع؛ فهذا هو الذي أنكره الأئمّة ـ كمالك وغيره ـ، وليس هذا مستحبًّا عند أحد من العلماء، وهو محلّ النّزاع: هل هو حرام أو مباح؟ وما علمنا أنّ أحدًا من علماء المسلمين استحبّ مثل هذا» ، ثم ذكر ـ عليه الرّحمة ـ حكم السّفر إلى القبور، ومن كلامه في «الجواب الباهر» قال: «وأما السّفر إلى قبور الأنبياء والصّالحين؛ فهذا لم يكن موجودًا في الإسلام في زمن مالك؛ وإنّما حدث هذا بعد القرون الثّلاثة ـ قرن الصّحابة والتّابعين وتابعيهم ـ، فأمّا هذه القرون التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يكن هذا ظاهرًا فيها، ولكن بعدها ظهر الإفك والشّرك. ولهذا لما سأل سائل مالكًا عن رجل نذر أن يأتي قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إن كان أراد المسجد فليأتِه وليُصَلّ فيه، وإن كان أراد القبر؛ فلا يفعل؛ للحديث الذي جاء: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد» . وكذلك مَن يزور قبور الأنبياء والصّالحين ليدعوهم، أو يطلب منهم الدُّعاء، أو يقصد الدُّعاء عندهم لكونه أقرب إجابة في ظنّه؛ فهذا لم يكن يعرف على عهد مالك، لا عند قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا غيره.
وإذا كان مالك يكره أن يطيل [الرجل] الوقوف عنده [صلى الله عليه وسلم] للدُّعاء؛ فكيف بمن لا يقصد لا السلام عليه ولا الدعاء له؛ وإنما يقصد دعاءه وطلب حوائجه منه ويرفع صوته [عنده] ؛ فيؤذي الرسول ويشرك بالله ويظلم نفسه، ولم يعتمد الأئمّة [لا] الأربعة ولا غير الأربعة على شيء من الأحاديث التي يرويها بعض الناس في ذلك؛ مثل ما يروون أنّه قال: «مَن زارني في مماتي فكأنّما زارني في حياتي» ، ومن قوله: «مَن زارني وزار أبي إبراهيم في سنة واحدة؛ ضمنت له [على الله] الجنة» ، ونحو ذلك؛ فإنّ هذا لم يروه أحد من أئمّة المسلمين، ولم يعتمدوا عليها، ولم يرووها، لا أهل الصّحاح ولا أهل السُّنَن التي يُعتمَد عليها ـ كأبي داود والنّسائي ـ؛ لأنّها ضعيفة بل موضوعة،