وقد ذكر الغزالي نفسه أنه كان في أول أمره يشك في كل شيء حتى البديهيات الضرورية الأولية قال: «حتى شفى الله تعالى عني ذاك المرض والإعلال، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية موثقاً بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف» نقله عن شارح (العقيدة الأصفهانية) ص 94 - 95، ونقل عنه ص 98: «وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها في تفتيشي عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية إيمان يقيني بالله تعالى، وبالنبوة واليوم الآخر، وهذه الأصول الثلاثة كانت رسخت في نفسي بلا دليل محرر، بل أسباب وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها» .
أقول: وذلك النور الذي يقذفه الله تعالى في الصدور ليس لكل أحد فإنه لم يحصل لمنكري البديهيات، وقد ذكر الغزالي أنه بقي نحوشهرين على الشك، بل قد يقال إنه في الأصل بالنسبة إلى الضروريات عام ولكن من خاض في النظر المتعمق فيه وحاول اكتساب اليقين من جهة النظر احتجب اليقين من جهة النظر احتجب عنه ذلك النور، فإن استمر على ذلك استمر على الشك كالسوفسطائية، وإن رجع إلى القناعة بالفطرة عاد له ذلك النور كما وقع للغزالي، وكذلك ليس قذف النور محصوراً في الضروريات العقلية التي يعنيها الغزالي، بل يتناول جميع القضايا العقلية التي لا يثبت الشرع بدونها، ولكن حصوله فيها كلها موقوف على صدق الرغبة في الحق والخضوع لما ظهر منه، وإيثاره على كل هوى.
والأسباب والقرائن والتجارب التي تحصل الإيمان اليقيني بالله تعالى وبالنبوة واليوم الآخر ليست مقصورة على النوع الذي ذكر الغزالي أنه اتفق له بممارسته للعلوم، بل ييسر الله تعالى لمن شاء ما هو أقرب منها وأقوى بالنظر العادي في آيات الآفاق والأنفس وتدبر الكتاب والسنة. وإنما الشأن في التعرض لفضل الله عز وجل، فمن اكتفى أولاً برجحان الشرع فآثره على هواه وأسلم له نفسه