وذلك أنه لو كان كل من كفر بالله خصه الله تعالى بذلك النعيم دون المؤمنين، لكانت تلك شبهة غالبة توقع الناس كلهم في الكفر.
فتخلص أن حكمة الحق في الخلق اقتضت أن تكون هناك بينات وشبهات، وأن لا تكون البينات قاهرة ولا الشبهات غالبة، فمن جرى مع فطرته من حب الحق ورباها ونماها وآثر مقتضاها، وتفقد مسالك الهوى إلى نفسه فاحترس منها، لم تزل تتجلى له البينات وتتضاءل عنده الشبهات، حتى يتجلى له الحق يقيناً فيما يطلب فيه اليقين، ورجحاناً فيما يكفي فيه الرجحان، وبذلك يثبت له الهدى ويستحق الفوز، والحمد والكمال على ما يليق بالمخلوق، ومن اتبع الهوى وآثر الحياة الدنيا، تبرقعت دونه البينات، واستهو ته الشبهات، فذهبت به (إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم) .
4 - فصل
إن قيل: لا ريب أن الانسان ينشأ على دينه واعتقاد ومذهب وآراء يتلقاها من مربيه ومعلمه، ويتبع فيها أسلافه وأشياخه الذين تمتلئ مسامعه بإطرائهم، وتأكيد أن الحق ما هم عليه وبذم مخالفيهم وثلبهم، وتأكيد أنهم على الضلالة، فيمتلئ قلبه بتعظيم أسلافه وبغض مخالفيهم، فيكون رأيه وهواه متعاضدين على اتباع أسلافه ومخالفة مخالفيهم، ويتأكد ذلك بأنه يرى أنه إن خالف ما نشأ عليه رماه أهله وأصحابه بالكفر والضلال، وهجروه وآذوه وضيقوا عليه عيشته، ولكن هذه الحال يشترك فيها من نشأ على باطل ومن نشأ على حق، فإذا دعونا الناس إلى الاستيقاظ للهوى وبينا لهم أثره وضرره، فمن شاء ذلك أن يشككهم فيما نشأو اعليه، وهذا إنما ينفع من نشأ على باطل، فأما من نشأ على حق فإن تشكيكه ضرر محض لأن غالب الناس عاجزون عن النظر.
قلت: المطالب على ثلاثة أضرب:
الأول: العقائد التي يطلب الجزم بها ولا يسع جهلها. الثاني: بقية العقائد.الثالث: الأحكام.