ولو لم يكن في كفه غير روحه ... البيت
ومثله قوله:
لا خلق أسمح منك إلا عارفٌ ... بك راء نفسك لم يقل لك هاتها
احمد عفاتك لا فجعت بفقدهم ... فلترك ما لم يأخذوا إعطاء
يقول: احمد سائليك؛ حيث لم يستوهبوك نفسك؛ لأنهم لو استوهبوها منك لأعطيتهم إياها! فتركهم لروحك بمنزلة الإعطاء منهم لك. وقوله: ولا فجعت بفقدهم حشوٌ لطيف. وفيه وجهان: أحدهما: أنه دعاء لهم، لما ذكر من أنه ينتفع بهم. والثاني: أنه دعاء له بدوام النعمة وبقاء الدولة. فكأنه قال: لا زلت مقصوداً.
لا تكثر الأموات كثرة قلةٍ ... إلا إذا شقيت بك الأحياء
لهذا البيت معنيان: أحدهما: أن الأموات لا تكثر إلا إذا غضبت على الأحياء فقتلتهم وأفنيتهم فشقوا. وقوله: كثرة قلة يعني أنها في الحقيقة قلة من حيث كانت فناءً وعدماً، أو لأن الأموات تبلى فتذروها الرياح وتأكلها الوحش والطير، فهي تقل وإن كثرت.
والثاني: أن الأموات لا تكثر إلا إذا مات هذا الممدوح، وشقي الأحياء بفقده، وأنهم يموتون كلهم بموته؛ فحينئذ تكثر الأموات كثرة في قلة؛ لأنه من حيث هو موت رجل واحد قليل، ومن حيث ينضم إليه موت الخلق كثير. ومثله قول الآخر:
لعمرك ما الرزية فقد مالٍ ... ولا شاةٌ تموت ولا بعير
ولكن الرزية موت حيٍّ ... يموت بموته خلقٌ كثير
وقال أبو عمرو السلمي: عدت أبا علي الأوراجي في علته التي مات فيها بمصر فاستنشدني:
لا تكثر الأموات كثرة قلةٍ
فجعل يستعيده ويبكي، فخرجت ولحقت بمنزلي فقيل: إنه مات! وكان أبو علي يتصوف.
والقلب لا ينشق عما تحته ... حتى تحل به لك الشحناء
الشحناء: البغض، كأنها تشحن الصدر، أي تملؤه عداوة.
يقول: إن القلب لا ينشق عما دونه وما فيه، بالرماح والأسلحة، إلا إذا نزلت به عداوتك. وقيل: أراد أن القلب لا يحتمل عداوتك، فإذا حلت به عداوتك انشق القلب فمات فزعاً وخوفاً. فكأنه يقول: لا يهلك أحد إلا ببغضه.
لم تسم يا هارون إلا بعد ما اق ... ترعت ونازعت اسمك الأسماء
يقول: لما ولدت تنافست الأسماء في الشرف بك حتى تقارعت بالقرعة عليك فخرج سهم هارون فسميت به، فلم تسم بهارون إلا بعد هذه الحالة.
فغدوت واسمك فيك غير مشاركٍ ... والناس فيما في يديك سواء
يقول: فصرت لا شريك لك في هذا الاسم، إذ لام يسم أحد بهذا الاسم مثلك في الفضل، فصرت منفرداً به والناس شركاء في أموالك، يتصرفون فيها كيف شاءوا.
لعممت حتى المدن منك ملاء ... ولفت حتى ذا الثناء لفاء
اللام في قوله: لعممت جواب القسم، أي والله لعممت، أي ملأت المدن. وملاء: جمع ملآن. واللفاء: الشيء القليل الذي لا قدر له.
يقول: قد عممت الأرض بجودك، حتى المدن ممتلئة به، وسبقت ثناءك، لما لك من القدر حتى صار هذا الثناء الذي أثني به عليك قليل، في جنب قدرك.
وقد صرع البيت في أثناء القصيدة من غير انتقال إلى قصةأخرى. وهذا جائز وإن قل.
ولجدت حتى كدت تبخل حائلاً ... للمنتهي ومن السرور بكاء
المنتهي: هو الانتهاء.
يقول: جدت حتى بلغت الغاية في الجود وكدت تستحيل بخيلاً، لأن الشيء إذا بلغ غايته انعكس إلى ضده. ثم قال: ومن السرور بكاء! أي أن الإنسان إذا تناهى في السرور دمعت عيناه، فيصير السرور بكاء.
أبدأت شيئاً منك يعرف بدوه ... وأعدت حتى أنكر الإبداء
يقول: ابتدأت فابتدعت بنوع المكارم ما لم يعهد قبلك، فمنك مبدؤه ثم كررته وزدت على ما كنت ابتدأت به، حتى تنسى الأول لأجل الثاني. ومثله:
فإذا أتيت بجود يومك مفخراً ... عمت به أرواح جودك في غد
فالفخر عن تقصيره بك ناكبٌ ... والمجد من أن تستزاد براء
ناكب: أي عادل. وبراء: أي بريء.
يقول: إن الفخر لا يقصر بك وهو ناكب عن أن يقصر بك؛ لأنك قد بلغت الغاية. والمجد: وهو الشرف، بريء من أن تستزيده؛ لأنه ليس فيه رؤية لم تبلغها أنت فتسأل الزيادة حتى تبلغها.
فإذا سئلت فلا لأنك محوجٌ ... وإذا كتمت وشت بك الآلاء