اسم الکتاب : مطالع البدور ومنازل السرور المؤلف : الغزولي الجزء : 1 صفحة : 87
فيكون للحديث نوبة ولغناء أخرى، وحكى عن بشار أنه قال لا تجعلوا مجالسكم حديثاً كله ولا غناء كله ولا هزلا كله ولا جداً كله ولكن تنتقلوا فإن العيش خلس.
واعلم أن في النديم والخمر لذات شتى فلذة الخمر زوال الهموم والغموم والأفكار ولذة النديم المحادثة، قال الشاعر:
وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الرجال ذوي العقول
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً ... فقد صاروا أقل من القليل
وأما أوساط الناس فيجب ألا يستكثر من الندماء ويقتصر على القليل فإن الكثير سبب إذهاب المال ووجود العداوة وفقدان المسرة وتعب القلب والحسم ولا يجب أن تصطفي نديماً حتى تغضبه في الصحو فإن وجدته حمولاً مطاوعاً قبولاً لما تأمره بصفيك وداده حاضراًُ وغائباً ومساعداً لك في الشدائد إذا وقعت فيها فاعتمد عليه فقلما تجده إذا النديم، وقد قال الشاعر:
إذا كنت مختاراً لنفسك صاحباً ... فمن قبل أن تبدئه بالود أغضبه
فإن كان في حال التعدي راضياً ... وإلا فقد جربته فتجنبه
قال بعض الظرفاء شرط المنادمة قلة الخلاف، والمعاملة بالإنصاف والمسامحة بالشراب، والتغافل عن الجواب، وإدمان الرضى، والطراح ما مضى وإسقاط التحيات، واجتنبا افتر اه لأصوات، وأكل ما حضر، وإحضار ما تيسر، وستر العيب.
ولقد أحسن من قال:
لا خير في الشراب إلا من أخاتقة ... إن سر غني وإن غنيته طربا
يعطيك صمتاً إذا غنيته وإذا ... شربت حي وإن حييته شربا
عف اللسان عفيف الفرج تحمده ... في كل حال إذا ثرى وإن تربا
فاشدد يديك عليه وإن ظفرت به ... وأكثر مودته لا تكثر الرهبا
كان إبراهيم بن المهدي يقول: لذة لعيش في ثلاث: منادمة الأحباب ومعاقرة الشراب ومذاكرة الآداب، ويروى أن أول من جعل لندمائه أمارة ينصرفون بها من مجلسه إذا أراد ذلك كسرى وهو أنه يمد رجله فيعرفون أنه يريد قيامهم فينصرفون وتبعه الملوك فكان فيروز الأصغر يدلك عينيه وكان بهرام يرفع رأسه السماء وكان في الإسلام معاوية يقول العزة لله وعبد الملك يلقى المروحة من يده، وحدث بهذا الحديث عند بعض البخلاء وسئل ما أمارته فقال: إذا قلت هات الطعام.
والناس يخلفون في الشرب فمنهم من يرى كثرة الندماء ومنهم من يرى الانفراد وممن رأى هذا الرأي جماعة من أهل الأدب قديماً حديثاً ولهم فيه أشعار وأخبار ومنهم من رأى مطالعة الكتب عليها وإعمال الفكرة في تصنيف العلوم والآداب، كما حكى عن الشيخ الرئيس ابن سينا أنه قال: كنت أستعين على مصنفات علومي باستعمال اليسير من الخمر المصلوح من الماء ومنهم الفارابي ودليل ذلك قوله شعرا:
لما رأيت الزمان تنكسا ... وليس في العشرة انتفاع
كل رئيس به ملال ... وكل رأس به صداع
لزمت بيتي وصنت نفسا ... لها عن اللذة امتناع
أشرب مما اقتنيت راحا ... لها على راحتي شعاع
لي من قراريرها ندامى ... ومن قراقيرها سماع
واجتنى من حديث قوم ... قد أقفرت منهم البقاع
قال بعضهم رأيت أعرابياً جالساً بالفلات تحت ظل شجرة ومعه كوة وهو يشرب قدحاًٍ ويصب في أصل الشجرة قدحاً فقلت له ما هذا فقال هو نديم ل يعربد علي يلحقني بظله ويحمل عني كله.
وقال بعضهم دخلت على بعض الرؤساء فلقيته يشرب وبين يديه كلب صيد وهو يشرب قدحاً ويصب قحاً بين يدي الكلب ومهما أكل طعاماً أو نقلاً رمى إلى الكلب منه فقلت له أتنادم كلباً فقال نهم يكف عني أذاه ويحرسني من أذى سواه يشكر قليلي ويحفظ مبيتي ومقيلي وأنشد شعراً:
وأشرب وحدي من كراهتي الأذى ... مخافة شر أو سباب لئيم
وقال الشيخ صفي الدين الحلي وأجاد: إذا لم أجد للراح خلا موافيا ... فلي بي أنس كامل حين أشرب لساني يغنيني وفكري منادمي ... وكفاي تسقيني وقلبي يطرب ومما يجب على ذوي السيادة والمروءة أن يسامحوا نديمهم إذا وقعت منه هفوة أو غفلة.
وما أحسن قول خالد اليشكري:
ولست بلاح لي نديما بزلة ... ولا هفوة كانت ونحن على الخمر
عزلت بجنبي قول خلى وصاحبي ... ونحن على صهباء طيبة النشر
فلما تمادى قلت خذها عريقة ... فإنك من قوم حجاحجة زهر
فما زلت اسقيه وأشرب مثلما ... سقيت أخي حتى بدا وضح الفجر
اسم الکتاب : مطالع البدور ومنازل السرور المؤلف : الغزولي الجزء : 1 صفحة : 87