اسم الکتاب : في تاريخ الأدب الجاهلي المؤلف : الجندي، علي الجزء : 1 صفحة : 59
وما كان البدوي يفكر في الاشتغال بمورد ثابت يربطه بمكان لا يبرحه طول حياته، وتستره حيطانه عن نور الفضاء، واتساعه الفسيح الأرجاء، ومن ثم أنف من الاشتغال بالزراعة، أو الصناعة فتركوا ذلك لغيرهم ممن كانوا يعتبرونهم أقل من البدو، أنفة وكبرياء، وكان مبدأ العربي: "الذل بالحراث، والمهانة بالبقر. والعز بالإبل، والشجاعة بالخيل"[9]. ولهذا تمسكوا بالصحراء، وعاشوا بين جنباتها الواسعة، تحت سقوف خيامهم، وبين حيواناتهم، يتنفسون من هوائها العذب، ونسيمها العليل، يحمل بين هبوبه وحركاته، الحرية والسيادة المطلقة، فكان يغذي روحهم المتعشقة للانطلاق، والمطبوعة على الأنفة من الحدود والقيود.
ولكن بسبب الجدب الضارب أطنابه لم يكن هناك من الموارد ما يكفي لإنعاش هؤلاء البدو، وتوفير عيشة هنيئة لهم جميعًا، لذلك انتشر الفقر والبؤس فيهم، ولم يكن فيهم من الأغنياء إلا قلة، خصوصًا في متاهات هذه الصحراء الواسعة وبين مرتفعاتها ومنحدراتها ومنحنياتها، حيث تضل الطريق وتعمى السبل حتى على كثير ممن لديهم خبرة بطرقاتها ودروبها. ومن ثم وجدت جماعة الصعاليك[10] وانتشر قطاع الطرق، وكثرت الغارات، وكان الأمن معدومًا، والقوة فقط هي صاحبة السيادة والسلطان.
ومما كان له أثر كبير في موارد الرزق ومعيشة العرب جميعًا، الحضر منهم والبدو، تبادل السلع، والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، ولذلك كانت لهم أسواق كثيرة، منها ما كانت ثابتة مع أيام السنة، ومنها ما كانت موسمية تعقد في مواسم معينة فإذا انتهى الموسم انفضت، وهذه جعلوها في أماكن متفرقة في أنحاء شبه الجزيرة، حتى تنال كل بقعة نصيبها منها، ولا يحرم بعض السكان من وجود هذه الأسواق في ديارهم، كما جعلوا لكل منها وقتًا خاصًّا، بحيث لا يتعارض بعضها مع بعض، ليستطيع كل من شاء أن يحضر جميع هذه الأسواق دون أن تفوته واحدة منها. وقد ذكر الألوسي كثيرًا من هذه الأسواق[11] ومواقيتها، فمما ذكره من هذه الأسواق: [9] تاريخ الأدب العربي لبلاشير صفحة 33. [10] الصعلوك هو الفقير. وزاد ابن سِيده: الذي لا مال له. وزاد الأزهري: ولا اعتماد. وتصعلك الرجل افتقر. [11] بلوغ الأرب 1 ص265، وتاريخ اليعقوبي ج1 ص270.
اسم الکتاب : في تاريخ الأدب الجاهلي المؤلف : الجندي، علي الجزء : 1 صفحة : 59