اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 89
هامتين يكملان معي الهمس في نفس ذلك المعنى الذي لا بد من الوصول إلى رفع كل لبس عنه حتى يسفر، فيتحقق ما نرجوه من توجيه شعرنا الحديث تلك الوجهة التي ندعو إليها بإيمان يزيده رسوخا أنه نبع عن إحساس لن يمل العقل البحث عن تعليله وإيضاحه.
فأما أولى الخاصيتين، فهي ظاهرة الحب بل العشق، والحب ليس وقفا على الغزل الجنسي كا قد يظن، فلغته من الناحية النفسية هي المنفذ الصادق لكل شعور حار، ومن عجب أن يفطن نقاد العرب أنفسهم إلى هذه الحقيقة الكبيرة فيحسون بلغة العشق عند أكبر شعراء العرب الخطابيين نفسه، وهو المتنبي، فيقول الثعالبي في "اليتيمة": إن المتنبي ققد خاطب الممدوح بمثل مخاطبة المحبوب، وإنه قد استعمل ألفاظ الغزل والنسيب في أوصاف الحرب والجد، وهو يرى في هذا مذهبا تفرد به شاعر الحمدانيين. وهذا حق، وإن يكن الثعالبي لم يستطع تعليل تلك الظاهرة؛ لأن النقد العربي بجملته لم يحاول أن يصل بين نفسية الشاعر وشعره، وذلك لسبب واضح، هو أنه يتضج إلا في العصر العباسي، وهو العصر الذي لم يعد يعبر فيه الشاعر التقليدي عن الحياة، وأصبح يرسف في محاكاة القديم، حتى لم يعد فضل للمحدثين في غير تجويد العبارة عن المعاني المطروقة والتفنن في "البديع". وجارى النقد الشعر فأصبح نقدا فنيا بحتا، ومن هنا لا ندهش عندما نرى الثعالبي يعلل استخدام المتنبي للغة الحب في غير الغزل بأن ذلك كان "اقتدارًا منه وتبحرا في الألفاظ والمعاني". ثم يضيف سببا آخر هو "رغبة الشاعر في رفع رأسه غن درجة الشعراء، والسمو بها إلى مماثلة الملوك"، وهذه الأسباب وإن تكن صحيحة إلا أنها لا تكفي، بل لعلها تعدو السبب الحقيقي الذي نجده في طبيعة المتنبي النفسية وفي ملابسات حياته، فقد كان الرجل قوي الانفعال سريع التأثر، زخرت نفسه بشتى المشاعر ففاضت في لغة الحب. ولقد أحب سيف الدولة حبا حقيقيا؛ إذ رأى فيه رجلا شهما كريما، وزاده حبا له كونه عربيا في زمن غلب فيه الأعاجم وسيطروا على العرب في كل مكان، إلا في حلب حيث كان يرابض الحمداني يحمي الثغور ضد الروم، ثم يخضع القبائل الثائرة، ويتبع النصر بالعفو عنهم ليضمهم إلى جانبه في دفاعه المجيد ضد أمراء بيزنطة أعداء العرب جميعا، ولقد ترك الشاعر أمير حلب مغضبا، ومكث في مصر عند أعداء بني حمدان أربع سنوات، ثم عاد إلى العراق، ومع ذلك لم يهج قط صديقه
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 89