اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 59
وقد عم البلاء ولو أردنا نحن ما عما
فلا تندب فأذن الغير لا تصغى لشكوانا
بل اتبعني لنحفر خندقا بالرفش والمعول
... نواري فيه موتانا
ودع عنك ما في قوله: "تم ما لو لم" فهذه أربعة أو خمسة مقاطع متلاحقة منفصلة كثيرة الميمات صعبة النطق في انسجام، ثم انظر فيما دون ذلك "فالبلاء قد عم" ألفاظ قوية تعبر عن إحساس قوي، وما ينبغي لنا أن نندب وإلا أضفنا الحمق إلى الألم، ومتى أنصتت أذن الغير إلى شكوى الناس، وبخاصة إذا كان هؤلاء الناس ممن لا يهمهم أمرنا؟ وإذن فليس لي إلا أن آخذ الرفش والمعول، وأن أتبع أخي الذي يدعوني في أسى إلى أن نواري موتانا، من منا لا يرى هذه الصورة المحزنة؟ من منا لا يحس بدعوة الأخ لأخيه؛ كي يتبعه وقد سار إلى الجثث الملقاة في العراء في خطى متناقلة، معوله على كتفه وأخوه من خلفه واجم النفس حزين الفؤاد؟
والشاعر لا يكتفي بالأموات؛ بل يهم بضم الأحياء إليهم، وقد تهيأ الجو وحميت الأنفاس فإذا به في القمة. تأتي القصيدة في وحدة موسيقية نفسية تنتظم مقطوعات موحدة لا يزال بعضها يكمل البعض، تنمو بنمو الإحساس المتصاعد إلى الأشباح حتى تستقر نفس الشاعر:
أخي! من نحن، لا وطن ولا أهل ولا جار
إذا نمنا، إذا قمنا، ردانا الخزي والعار
لقد خمت بنا الدنيا كما خمت بموتانا
فهات الرفش واتبعني لنحفر خندقا آخر
... نواري فيه أحيانا
وهذه هي المقطوعة الأخيرة التي بلغت غاية الألم. ولكني لست أدري هل توحي إلى القارئ بما توحي به إليَّ أم لا؟ إني أحس فيها إثارة لهمتي وتحريكا لمعاني العزة في نفسي. فأنا لا أومن بأن الدنيا قد خمت بنا، كما خمت بموتانا، وأنا لا أرضى أن أواري التراب حيا. إن في هذه النغمات ما يلهب وطنيتي بل إنسانيتي، وهكذا تنتهي القصيدة إلى هذا الدرس النبيل، والشاعر بعد لم يعظ ولم يشد بالوطنية، ولا دعاني إلى شيء من تلك المعاني الضخمة التي نتشدق بها، وإنما أشعرني ببؤسي و"ما لي وطن ولا أهل ولا جار" وما أرتدي أن نمت أو قمت غير رداء الخزي والعار. لقد هم الشاعر بأن يدفنني حيا، فنفرت عزتي وهاجت شجوني. إنني أقوى نفسا وأعز جانبا، وأحمى شجاعة وإن كانت قد أدركت بؤسي، بل ربما لأنني قد أدركت مدى ذلك البؤس.
والآن أليس هذا هو الشعر المهموس الذي ندعو إليه؟ أليس هذا هو الشعر الإنساني الذي نهتز لنغماته؟ إن بينه وبين الكثير من شعراء مصر قرونا، وإنه لمن الظلم أن يرتفع بعد ذلك بصوت يحاول أن ينكر على هؤلاء الشعراء -نعمية وإخوانه بالمهجر- أنهم هم الآن شعراء اللغة العربية، وأن شعرهم هو الذي سيصيب الخلود.
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 59