اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 58
والجندي يعود مكللا بعزة النصر، فيلقي جسمه "المنهوك" في "أحضان خلانه"، لست أدري ما مصدر التأثير في البيت، أهو في هذه المدات الثلاث: "منهوك - أحضان - خلان" التي توحي بالتأسي والراحة والحنان، أم هو في إلقاء المنهوك جسمه بين أحضان خلانه؟ جسم منهوك "يلقي" بين الأحضان، أي صدق في العبارة؟ وأي صدق في التأثير؟ ثم أي تجسيم الصورة التي نكاد نراها؟ وأما نحن فسنعود من الحرب منهوكين، كما يعود كل الجند، ولكننا لن نلقى خلانا تتلقانا أحضانهم، وأنَّى لنا بهم والجوع لم يترك لنا صحبا نناجيهم سوى أشباح موتانا؟ أبعد هذا نختلف في حقيقة الشعر، ونروح نهذي بفحولة العبارة وجدة المعنى، وإشراق الديباجة؟ أبعد هذا نتخبط في معنى الأدب، فيذهب البعض إلى أنه الحث على مكارم الأخلاق والعدل الاجتماعي وإصلاح النظم، ويذهب آخرون إلى أنه الأفكار العظيمة والتفكير الكبير والصنعة المدهشة والأسلوب الفني!!
أخي! إن عاد يحرث أرضه الفلاح أو يزرع
ويبني بعد طول الهجر كوخا هذه المدفع
فقد جفت سواقينا وهد الذل مأوانا
ولم يترك لنا الأعداء غرسا في أراضينا
... سوى أجياف موتانا
أية بساطة في التصوير؟ وأي قرب من واقع الحياة؟ تلك التي تعضني وتعضك: حياة الفلاح الذي يحرث ويزرع بعد أن يبني "كوخه" من جديد؛ وأما نحن فقد "جفت سواقينا"! عبارة ساذجة، ولكن كم لها في النفس من أثر. سواقينا التي ألفناها. سواقينا العزيزة التي خلفها لنا الآباء. لقد "هد الذل مأوانا" ثلاثة ألفاظ قوية نافذة جبارة، لا تستطيع أن تستبدل بأي منها غيره دون أن تفسد الشعر وتذهب بقوته، "هد الذل مأوانا" فهو لم يهدمه، والهدم شيء مبتذل. "هد" لفظ موجز مركز موحٍ مصور. وهو قد هد مأوانا، فلم يهد بيتنا ولا دارنا ولا منزلنا ولا قريتنا بل ولا وطننا، هد مأوانا الذي نحتمي به ونستر خلف جدرانه آلامنا، ثم ما الذي هد هذا المأوى؟ إن الحرب لم تهده، وإلا لبنيناه من جديد، كما سيبني فلاح الغرب كوخه، هده الذل، لفظ دال ثقيل، ثقيل كالصخر، لفظ بغيض مخيف مثير، هد الذل مأوانا، ولم يترك لنا الأعداء غرسا في أراضينا غير أجياف موتانا، وما آلمه من غرس! تلك الجثث الهامدة، التي ترقد تحت التراب في غير مجد ولا عزاء.
أخي! قد تم ما لو لم نشأه نحن ما تما
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 58