اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 144
ولكن إلى جانب هذا النقد المنهجي الرائع قامت محاولة "قدامة" التي يريد الأستاذ خلف الله أن يجدد محنتها اليوم. وموضع الخطر عند "قدامة" وعند "العسكري" الذي يعتبر استمرارا لمذهب -هو اعتماد نقده على التقاسيم والشكل والتعليم والتحكيم، ومن منا لا يذكر تعريفه للشعر بأنه: الكلام الموزون المقفى الذي يدل على معنى؛ ليخرج غير الكلام الأغراض ومناهجها وتمكن بأن يكون المدح بأشياء ولا يكون غير الموزون وغير المقفى وغير ذي المعنى وما إلى ذلك من حماقات؛ ومن منا لا يذكر رده الرثاء والفخر إلى المدح وحصره لمعاني تلك بأشياء، ثم ماذا فعل في تقسيمه لأوجه البديع غير الخلط حتى في الاصطلاحات، ورفضه أن يسمى المطابق مطابقا كما سماه ابن المعتز وتسميته له بالمتكافئ، ثم تعريفه المعاظلة بأنها فاحش الاستعارة وما إلى ذلك من خلط. ثم هبه قسم الأوجه بل هبه مهد السبيل للعسكري ليصل بها إلى خمسة وثلاثين وجها، فماذا أفدنا من ذلك؟ وماذا يفيد طلبتنا اليوم من لصق بطاقات على طرق الأداء كما يلصق التجار على بضائعهم؟ أهذا نقد؟ أهو بلاغة؟ أهو أدب؟ هذا لا شيء، هذا إضلال للمتأدبين وإفقار للذوق وإماتة للحاسة الفنية في النفوس، لقد قلت وأكرر: إن كتب قدامة وكتاب أبي هلال مستطيرة الشرر، ومن الواجب أن نلفت الأنظار إلى أنه لا يجب أن ينظر إليها المتعلمون إلا كوثائق تاريخية تنير لنا ماضينا، وأما أن نعتبرها كتب نقد فلا، وكفى طغيانها على كتب المتأخرين حتى يومنا، فقد كانت في ذلك محنتنا، ومن واجبنا أن ندافع عن حياتنا التي يغذيها الأدب الصحيح.
أما عبد القاهر الجرجاني فقد قلت للأستاذ خلف الله شفويا: إنني لا أعدل بكتاب "دلائل الإعجاز" كتابا آخر، وأما "أسرار البلاغة" فمرتبته في نظري دون "الدلائل" بكثير. الدلائل تشتمل على نظرية في اللغة وتطبيق تلك النظرية، وأما "أسرار البلاغة" فأقرب إلى الفلسفة النظرية منها إلى النقد الأدبي، وليكن تفصيل ذلك موضوع الحديث الآتي. وكفى أن وصلنا الآن إلى رد اتجاه العلم عن الأدب، وسوف نرى في مذهب عبد القاهر جانبا كبيرا من المعرفة التي يجب أن تتوفر للناقد، وهي بعد ليست معرفة نظرية بل معرفة لغوية وفنية تكتسب بالدربة، وبدراسة علوم اللغة لا بدراسة المنطق والسيكولوجية والجمال وما إليها.
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 144