اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 115
أن أبا العلاء لم يتصور مواقف وأوضاعا حسية عديدة تحمل ما بنفسه من سخرية، ورد الدكتور طه يجادل العقاد في قدرة الخيال أهي خالقة أو معيدة؟ وما كانا أغنانا عن هذه الخصومة بأن نتناول النص نبين ما فيه دون الرجوع إلى "فلسفة علم النفس".
وكذلك الأمر في مشكلتي "تشاؤم أبي العلاء" و"سخرية أبي العلاء".
ففي "مطالعات" الأستاذ العقاد عدة مقالات عن المعري، ولكن موضع الداء هو دائما ما ذكرت من إقحام كتابنا لآراء كونوها من مطالعاتهم في الكتب الأوربية على أدبنا إقحاما، بدلا من الخضوع لذلك الأدب والصبر على فهمه واستخلاص ما به في تواضع وإخلاص، فالعقاد يبدأ بتقرير تشاؤم أبي العلاء "ص70 وما بعدها" مع أن التشاؤم هو ما نريد أن نعلم لونه ونتائجه. ونحن بعد نعلم أن التشاؤم مصدره اتساع الشقة بين الأمل والواقع أي بين قدرتنا وبين ما نبغي، ولكننا نعلم أن نتائجه تتفاوت في النفوس، فهي عند رجل كأبي العلاء قد تبلغ حد اليأس واليأس قد يريح بعض النفوس، كما قد يحطم أخرى، واليأس قد يصرف إلى نوع من السخرية أشبه ما تكون بحساسية العقل. وهنا نلمس الاتجاه الصحيح نحو فهم محنة أبي العلاء ككل، وهو ما كنا نبغيه من نقادنا، ولكنهم لم يفعلوا مكتفين بتعميمات لا غناء فيها.
وكذلك أمر السخرية، فقد تحدث عنها العقاد، كما ذكر الدكتور طه حسين أنه أول من لفت الأنظار إليها في رسالة الغفران، ولكننا لا نخرج من حديثهما بفهم واضح لتلك السخرية أو تمييز لها عما يشابهها من اتجاهات النفس، وعلة ذلك فيما أحسب هي افتقارنا إلى المفارقات الدقيقة، ولنوضح قليلا ما نقصد إليه في التشاؤم وفي السخرية.
فالتشاؤم قد يكون تشاؤما عقليا وليدا لنظرة فلسفية للوجود وما فيه من قوانين كتشاؤم شوبنهور، وهذا لا يعنينا؛ لأننا لسنا من الطموح بحيث نمتد بضعفنا العقلي إلى الحكم على العالم بأنه خير العوالم الممكنة أو أسوأها. ولنترك ذلك للفلاسفة يبنون العالم كما يريدون وإنما يعنينا تشاؤم الأدباء، وتلك صفتهم الغالبة حتى كُتاب الكوميديا منهم، وإن تفاوتت ألوان ذلك التشاؤم، فشعراء الرومانتيكية كلهم متشائمون لما في حسهم من إرهاف يبالغ في الشعور بوقع محن الحياة، وعجز الإرادة البشرية عن كبح جماح الأمل. ولقد يولد أحدهم من أصل شريف، ثم تأتي أحداث الحياة فتعطل من قواه وتذهب
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 115