أفصح القبائل:
وهذا فصل لا يؤخذ فيه إلا بأقوال الرواة الذين جمعوا اللغة وتلقوها عن أهلها؛ وذلك لتقادم العهد بزمان العرب؛ ولأن لغاتهم غير مميزة في التدوين حتى يعارض بعضها ببعض ويفصل بينها بطبقات من النظر يعلو إليها وينحدر عنها كما هو الشأن في التنظير والمقابلة بين المتفاضلات.
والفصيح عندهم ما كثر استعماله في ألسنة العرب ودار في أكثر لغاتهم؛ لأن تكراره على الألسنة المستقلة بطبيعتها في سياسة المنطق دليل على تحقق المناسبة الفطرية فيه.
وليس يخفى أن فصاحة العربي إنما هي عمل من أعمال الطبيعة المحيطة به، فإن كانت خالصة وإلا كثر في لسانه الابتذال والتنافر، كما تجد في لغات القبائل الضاربة إلى العراق واليمن والشام؛ وهذه أيضا تقرب أو تبعد من الفصاحة على نسبة مضبوطة باعتبار قربها وبعدها من ذلك الاختلاط الطبيعي[1]؛ فحقيقة الفصاحة أنها عمل تبتدئه الطبيعة وتكمله الوراثة، فإن وقع اختلال في أحد العاملين وقع مثله في العمل، على نسبة واحدة.
ومن قبائل العرب قوم لم يخرجوا من ديارهم، ويسمونهم الأزحاء؛ لأنهم أحرزوا دورًا ومياهًا فلم ينزحوا عن أوطانهم بل هم يدورون في دورهم كالأرحاء على أقطابها، إلا أن ينتجع بعضهم في البرحاء وعام الجدب، وذلك قليل؛ وهم ست قبائل: تميم بن مرة، وأسد بن خزيمة في مضر؛ وكلب بن وبرة، وطيء بن أزد في اليمن؛ وقبيلتان أخريان في ربيعة لم يذكروهما؛ ومنهم قبائل يسمونها الجمرات، لاجتماعهم[2] على أن لا يخرجوا منهم إلى غيرهم ولا يدخلوا من غيرهم فيهم، وهم: بنو تميم بن عامر بن صعصعة، وبنو الحرث بن كعب وبنو ضبة، وبنو عبس بن بغيض[3].
وبالأرحاء والجمرات نستدل على أن الطبيعة العربية تتفاوت في الميل إلى العزلة والمخالطة، وهي بحسب ذلك أيضًا متفاوتة في خلوص المنطق وانتشابه.
ولسنا نريد المخالطة على إطلاقها، بل مخالطة الأعاجم خاصة، والمخالطة الدائمة على الأخص، وهي التي تكون في القبائل النازلة على حدودهم؛ وذلك عند العلماء هو الحد بين من ترتضى عربيته ولا من يوثق بلغته، حتى إنهم نصوا على أن نطق من ترضى عربيته بالشاذ الذي يخالف قياسهم لا يخل بفصاحته؛ لأنه لا بد من أن يكون قد حاول به مذهبًا أو نحا نحوًا من الوجوه التي يتأول عليها؛ وذلك لأن الجادة على غير ما جاء به فيكون ما شذ من منطقه مأمونًا عليه من فساد المخالطة؛ ولهذا يلحقونه بقياس القريحة الصحيحة. [1] كان العرب أنفسهم يعرفون تأثير الطبيعة في خلوص منطقهم، وسنأتي بالنص على ذلك في موضع آخر. [2] الجمرة لغة: الجماعة، والتجمير: التجميع. [3] سنشير في بعض المواضع من بحث الشعراء إلى هذه الجمرات وما طفئ منها.