بسبيل ما تخلده الطبيعة مما يعتبر به الآخرون من أمر الأولين.
ولما كانت اللغة كما أسلفنا تابعة لأحوال الاجتماع في البسط والقبض وما يتقلب عليه ويحدث فيه، بحيث لا تخرج عن أن تكون مرآة تظهره كما هو في نفسه مهما تنوعت أشكاله واختلفت أزياؤه, كان لا بد أن تتغير بحسبه ما دامت مستعملة فيه، وهذا التغير هو حقيقة الاصطلاح والمواضعة؛ فالإنسان لما ارتجل المقاطع الثلاثية دل بها على معان محصورة في حدود نظامه الاجتماعي، ثم ضرب في الكلام بمقدار ما يحد من أمره وما يتنبه إليه من حقائق الموجودات التي تكاشفه بنفسها، وما يقتضيه التبسط في مناحي المجتمعات شيئًا فشيئًا؛ وذلك على طريقة تكرار الألفاظ وتنويعها للمعاني المختلفة بدلالة القرينة. وهذا النحو لا يزال باقيًا في اللغة الأكادية، فإنهم يدلون بلفظه لا تعدو هجاء واحدًا على خمسة عشر معنى، وهي لفظة "GA" أو "CA" يدلون بها على الفم والوجه والعين والأذن والشكل والقدم والرجل والنظر والتكلم والمدينة، وهذا أكثر معانيها.
ثم يعبر الإنسان عن المعاني بما يرادفها من ألفاظ المحسوسات، كما يعبر أهل المكسيك عن معنى الصلابة بلفظ الحجر، وكما وجدوا في الكتابة الهيروغليفية بمصر والصين والمكسيك أيضًا، وهي الكتابة الصورية؛ فإنهم يرسمون الشمس ويريدون بها التعبير عن الضوء، ويرسمون القمر ويعبرون به عن الليل، وإذا أرادوا أن يدلوا على المشي مثلًا رسموا ساقي رجل في حال الحركة، وهلم على هذا القياس، مع أن هؤلاء، وإن كانوا في أقدم عهد الكتابة إلا أنهم في أول عهد التاريخ، فأحر بالمتكلمين أن يكونوا كذلك في أول عهدهم بالدلالة المعنوية؛ ومن هذا القبيل أن زنوج "غريبو" يدلون على معنى الغضب بما ترجمته: "قد نتأ عظم في صدري"!
ويرتقي الإنسان من ذلك التعبير عن غرائب الاجتماع في عهده على نحو ما رأيت من تسمية الخيل والمعزى، وكما فعل سكان جزيرة "فاكومز" فإنهم لما رأوا أول رجل أوروبي دخل بلادهم سموه بما ترجمته "طويل وجه شعر رجل" ولفظها في لغتهم "يكبيكو كسالكوس" ثم استمروا يصقلونها ويخففون من ثقلها بمقدار ما تخف هذه الدهشة الأولى، حتى صارت الكلمة في لغتهم بعد أن ألفوا الأوروبيين "يكبوس".
ومتى بلغ الإنسان إلى هذه الدرجة فقد صار في أعلى سلم الاجتماع الطبيعي، وحينئذ تدخل اللغة في الطور الصناعي وتجري عليها أحكام الاشتقاق والنحت والقلب والإبدال، ويفعل الزمن فعله فيها كما يفعل في تكوين الجماعات، وبذلك تتنوع وتنشأ منها اللغات الكثيرة.