الأرضية ليست من الأنواع التي نعهدها اليوم، بل كانت في غياة من العظم والهول وشدة المراس. لا جرم كانت هذه الحالة مضطرة للإنسان إلى الاصطلاح في مخاطبة نوعه كلما نذر بها، كما كانت هي الباعثة له على انتقاله من أول أطواره إلى الطور الثاني الذي هو بداية تاريخ العقل الاجتماعي الساذج؛ وذلك أن العلماء يجعلون الزمن من نشأة الإنسان الأرضية إلى بداءة التاريخ ثلاثة عصور: عصر التوحش المطلق، وعصر الحجر، وعصر البرنز؛ ويليها عصر الحديد الذي يبتدئ مع إنسان التاريخ، وهذا التقسيم عنه يصح أن يطلق على اللغة أيضًا، فعصر التوحش فيها هو الذي خرجت فيه الأصوات الوجدانية مصحوبة بالإشارات أولًا ثم استقلت هذه عنها، وعصرها الحجري هو الذي ابتدأ فيه الإنسان ينحت من المقاطع الحيوانية والطبيعية لغته الأولى، وعصرها البرونزي الذي يدخل فيه شيء من الصناعة؛ هو العصر الذي اهتدى فيه الإنسان إلى الزيادة على المقاطع الثنائية وصنعة الألفاظ على هذا الوجه؛ ثم انقادت له اللغة وتماسكت، وذلك عصرها الحديدي الذي ابتدأ مع التاريخ.
ومما يستأنس به أن تلك المخلوقات الهائلة التي كانت لعهد النشأة الأولى وانقرضت، ربما كان في أصواتها بعض مقاطع متنوعة يتألف من مجموعها "أبجدية" صالحة، وهي التي ورثها الإنسان وركب منها أصول لغته، وذلك فضلًا عن جهاز الصوت وشدته التي تترك له أثرًا في النفس هنيهة يتمكن فيها الإنسان من استيفاء صنعة التقليد الصوتي على أتم وجوهها. والله أعلم بغيبه.
فاللغات قبل التاريخ بزمن لا يذكر التاريخ في حسابه، وقد تمشت على سنن الاجتماع وجرت معه في طريق واحدة؛ ولا يزال ذلك من أمرها إلى اليوم في الشعوب المنحطة، فإن من أهل أوستراليا من ليس في لغتهم من العدد إلا واحد واثنان "نتات، نايس" ويكررونه مع لفظ الواحد إذا عدوا خمسة، فإذا بلغوا الستة كرروه ثلاث مرات، ثم يقرنون بها لفظ الواحد للسبعة، وذلك منتهى ما يعدون؛ أما ما وراءه السبعة فيشيرون إليه بلفظ "كثير". وما كانت لفظة الكثرة لتطلق على الثمانية كما تطلق على الثمانين مثلًا إلا لأن ما بين المعنيين من الجزئيات غير مضبوط في نظام الاجتماع بل هو مطلق فيه، وكذلك يطلق الاسم عليه.
وقد وجد علماء اللغات أيضًا أن من أولئك من يعبرون عن معنى الصلابة، بلفظ الحجر؛ وعن معنى الاستدارة، بلفظ القمر؛ وهكذا من المترادفات التي هي أصول طبيعية ثابتة لتلك المعاني المتفرعة.
وذكروا أن أهالي "المكسيك" القدماء لما رأوا السفينة أول مرة سموها "بيت الماء"، وأن أهل "ميسوري" لم يكن عندهم غير الأدوات المتخذة من الصوان، فلما جيء إليهم بالحديد والنحاس سموا الأول حجرًا أسود والثاني حجرا أحمر؛ وأن بعض أهالي أمريكا لما رأوا الخيل أول مرة، ولم تكن في أرضهم اختلفوا في تسميتها، فبعضهم سمى الجواد "الكلب المسحور" وآخرون سموه "الخنزير الحامل للإنسان"؛ وكذلك لما رأى أهل "المكسيك" المعزى ولم يكونوا عرفوها من قبل سموها "رأس شجرة وشفة شعر". ومثل هذا كثير أحصاه علماء اللغات، ودلوا عليه بألفاظه في منطق أهله، فلا بد أن تكون كل اللغات قد جرت في ارتقائها على هذا النحو حفظه التاريخ في جملة أدلته، والذي هو