المؤدبون:
وقد أشرنا إلى المؤدبين فيما سبق، ونحن ذاكرون طائفة منهم تتبعنا أسماءهم فيما بين أيدينا من كتب الأدب والتاريخ؛ لأنهم كانوا مادة هذه الكلمة، وإنما قيل لهم المؤدبون تمييزًا لهم من المعلمين الذي اختصوا بإقراء صبيان العامة في الكتاتيب، فإن هؤلاء لم يكن يطلق على أحدهم إلا لقب المعلم، وقد جعلوهم مثلًا في الحمق حتى قالوا: "الحمق في الحاكة والمعلمين والغزالين" ثم جعلوا الحاكة والغزالين أقل وأسقط من أن يقال لهم حمقى؛ لأن الأحمق هو الذي يتكلم بالصواب الجيد ثم يجيء بخطأ فاحش، وليس عند هؤلاء صواب جيد في مقال ولا فعال، فبقي الحمق في عرفهم خاصا بالمعلمين.
أما المؤدبون فهم الذين ارتفعوا عن تعليم أولاد العامة إلى تعليم أولاد الخاصة أو أولاد الملوك المرشحين للخلافة، وأخذهم بفنون الآداب: كالخبر والشعر والعربية ونحوها، ولذا كانوا يسمونها "علوم المؤدبين".
قال الجاحظ: مر رجل من قريش بفتى من ولد عتاب بن أسيد وهو يقرأ كتاب سيبويه، فقال: أف لكم! علم المؤدبين وهمة المحتاجين[1].
على أن المؤدبين كانوا عندهم على ضربين: أصحاب العلوم، وأصحاب البيان وكانوا يخصون هؤلاء بالأثرة، قال ابن عتاب: "يكون الرجل نحويا عروضيا، وقسامًا فرضيًا[2]، وحسن الكتابة جيد الحساب، حافظًا للقرآن راوية للشعر، وهو يرضى أن يعلم أولادنا بستين درهمًا، ولو أن رجلًا كان حسن البيان حسن التخريج للمعاني ليس عنده غير ذلك لم يرض بألف درهم". ومن ثم اختص مشاهير العلماء والرواة بتأديب أولاد الخلفاء والأمراء.
فمن المؤدبين أبو معبد الجهني، وعامر الشعبي، كانا يعلمان أولاد عبد الملك بن مروان، وهما أقدم المؤدبين فيما وقفنا عليه[3]؛ ويزيد بن مساحق، أدب الوليد بن عبد الملك أيضا؛ وعبد الصمد بن الأعلى، أدب الوليد بن عبد العزيز؛ والجعد بن درهم، كان يعلم مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية؛ والشرقي بن القطامي، كان يؤدب المهدي بن المنصور؛ وأبو سعيد المؤدب، كان يؤدب موسى الهادي؛ ومحمد بن المستنير المعروف بقطرب، كان يؤدب المهدي؛ وأبو عبيدة كان يؤدب الرشيد؛ والأحمر النحوي كان يعلم الأمين، ثم أدبه الكسائي؛ وفي "طبقات الأدباء" أن الكسائي كان يؤدب [1] وكانوا يقولون: لا ينبغي للقرشي أن يستغرق في شيء من العلم إلا علم الأخبار أما غير ذلك فالنتف والشذور. [2] عالمًا بالمواريث. [3] وأقدم من عرف من المعلمين قبل ظهور لقب المؤدب، أبو الأسود الدؤلي: كان تجتمع له الناس فيعلمهم النحو تعليمًا.