responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : المستطرف في كل فن مستطرف المؤلف : الأبشيهي، شهاب الدين    الجزء : 1  صفحة : 490
وقيل: إن سبب بداية ذي النون المصري رحمه الله تعالى أنه رأى طيرا أعمى بعيدا عن الماء والمرعى، فبينما هو يتفكر في أمر ذلك الطائر، فإذا هو بسكرجتين برزتا من الأرض إحداهما ذهب والأخرى فضة، هذه فيها ماء والأخرى فيها قمح، فلقط القمح وشرب الماء. ثم غابا بعد ذلك فذهل ذو النون، وانقطع إلى الله تعالى من ذلك الوقت.
وحكي أن رجلا من أبناء الناس كانت له يد في صناعة الصياغة، وكان أوحد أهل زمانه، فساء حاله وافتقر بعد غناه، فكره الإقامة في بلده، فانتقل إلى بلد آخر، فسأل عن سوق الصاغة، فوجد دكانا لمعلم السلطنة وتحت يده صناع كثيرة يعملون الأشغال للسلطنة، وله سعادة ظاهرة ما بين مماليك وخدم وقماش وغير ذلك، فتوصل الصائغ الغريب إلى أن بقي من أحد الصناع الذين في دكان هذا المعلم وأقام يعمل عنده مدة، وكلما فرغ النهار دفع له درهمين من فضة، وتكون أجرة عمله تساوي عشرة دراهم، فيكسب عليه ثمانية دراهم في كل يوم، فاتفق أن الملك طلب المعلم وناوله فردة سوار من ذهب مرصعة بفصوص في غاية من الحسن قد عملت في غير بلاده كانت في يد إحدى محاظيه، فانكسرت، فقال له:
إلحمها، فأخذها المعلم وقد اضطرب عليه في عملها، فلما أخذها وأراها للصناع الذين عنده وعند غيره فما قال له أحد أنه يقدر على عملها، فازداد المعلم لذلك غما، ومضت مدة وهي عنده لا يعلم ما يصنع، فاشتد الملك على إحضاره، وقال: هذا المعلم نال من جهتنا هذه النعمة العظيمة ولا يحسن أن يلحم سوارا، فلما رأى الصانع الغريب شدة ما نال المعلم قال في نفسه هذا وقت المروءة أعملها ولا أؤاخذه ببخله علي وعدم إنصافه ولعله يحسن إلي بعد ذلك، فحط يده في درج المعلم وأخذها وفك جواهرها وسبكها ثم صاغها كما كانت، ونظم عليها جواهرها، فعادت أحسن مما كانت، فلما رآها المعلم فرح فرحا شديدا، ثم مضى بها إلى الملك، فلما رآها استحسنها وادعى المعلم أنها صنعته، فأحسن إليه وخلع عليه خلعة سنية، فجاء وجلس مكانه، فبقي الصائغ يرجو مكافأته عما عامله به، فما التفت إليه المعلم، ولما كان آخر النهار ما زاده على الدرهمين شيئا، فما مضت إلا أيام قلائل وإذا الملك اختار أن يعمل زوجين أساور على تلك الصورة، فطلب المعلم ورسم له بكل ما يحتاج إليه وأكد عليه في تحسين الصفة وسرعة العمل، فجاء إلى الصانع وأخبره بما قال الملك، فامتثل مرسومه ولم يزل منتصبا إلى أن عمل الزوجين، وهو لا يزيده شيئا على الدرهمين في كل يوم ولا يشكره ولا يعده بخير ولا يتجمل معه، فرأى المصلحة أن ينقش على زوج الأساور أبياتا يشرح فيها حاله ليقف عليها الملك، فنقش في باطن أحدهما هذه الأبيات نقشا خفيفا يقول:
مصائب الدهر كفّي ... إن لم تكفّي فعفّي
خرجت أطلب رزقي ... وجدت رزقي توفّي
فلا برزقي أحظى ... ولا بصنعة كفّي
كم جاهل في الثريا ... وعالم متخفّي
قال: وعزم الصانع على أنه إن ظهرت الأبيات للمعلم شرح له ما عنده وإن غم عليه ولم يرها كان ذلك سبب توصله إلى الملك، ثم لفهما في قطن وناولهما للمعلم فرأى ظاهرهما ولم ير باطنهما لجهله بالصنعة، ولما سبق له في القضاء، فأخذها المعلم ومضى بهما فرحا إلى الملك، وقدمهما إليه، فلم يشك الملك في أنهما صنعته، فخلع عليه وشكره، ثم جاء فجلس مكانه ولم يلتفت إلى الصانع، وما زاده في آخر النهار شيئا على الدرهمين، فلما كان اليوم الثاني خلا خاطر الملك فاستحضر الحظية التي عمل لها السوارين الذهب فحضرت وهما في يديها، فأخذهما ليعيد نظره فيهما وفي حسن صنعتهما، فقرأ الأبيات، فتعجب وقال: هذا شرح حال صانعهما والمعلم يكذب، فغضب عند ذلك، وأمر باحضار المعلم، فلما حضر قال له: من عمل هذين السوارين؟ قال: أنا أيها الملك، قال: فما سبب نقش هذه الأبيات؟ قال: لم يكن عليهما أبيات. قال: كذبت. ثم أراه النقش. وقال: إن لم تصدقني الحق لأضربن عنقك، فأصدقه الحق، فأمر الملك بإحضار الصانع، فلما حضر سأله عن حاله، فحكى له قصته، وما جرى له مع المعلم. فرسم الملك بعزل المعلم وأن تسلب نعمته وتعطى للصانع، وأن يكون عوضا عنه في الخدمة ثم خلع عليه خلعة سنية، وصار مقدما سعيدا، فلما نال هذه الدرجة. وتمكن عند الملك تلطف به حتى رضي عن المعلم الأول وصارا شريكين ومكثا على ذلك إلى آخر العمر. ورحم الله من قال:

اسم الکتاب : المستطرف في كل فن مستطرف المؤلف : الأبشيهي، شهاب الدين    الجزء : 1  صفحة : 490
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست