اسم الکتاب : المستطرف في كل فن مستطرف المؤلف : الأبشيهي، شهاب الدين الجزء : 1 صفحة : 460
فلم أر مثلي طلّق اليوم مثلها ... ولا مثلها في غير شيء يطلّق
لها خلق عفّ ودين ومحتد ... وخلق سويّ في الحياء ومنطق
فسمعه أبوه فرّق له وقال له: راجعها يا بني، فراجعها، وأقامت عنده حتى قتل عنها يوم الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه سهم فقتله. فجزعت عليه جزعا شديدا، وقالت ترثيه:
فآليت لا تنفكّ نفسي حزينة ... عليك ولا ينفكّ جلدي أغبرا
فتى طول عمري ما أرى مثله فتى ... أكرّ وأحمى في الهياج وأصبرا
إذا شرعت فيه الأسنة خاضها ... إلى القرن حتى يترك الرمح أحمرا «1»
ثم تزوجها بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، ودعا الناس إلى وليمته، فأتوه، فلما فرغ من الطعام، وخرج الناس قال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين ائذن لي في كلام عاتكة حتى أهنيها، وأدعو لها بالبركة، فذكر عمر ذلك لعاتكة، فقالت: إن أبا الحسن فيه مزاح، فائذن له يا أمير المؤمنين، فأذن له، فرفع جانب الخدر، فنظر إليها فإذا ما بدا من جسدها مضمخ بالخلوق، فقال لها يا عاتكة:
ألست القائلة:
فآليت لا تنفك نفسي حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
وقيل: إن عمر لما قتل عنها جزعت عليه جزعا شديدا، وتزوجت بعده الزبير بن العوام، وكان رجلا غيورا، وكانت تخرج إلى المسجد كعادتها مع أزواجها، فشق ذلك عليه، وكان يكره أن ينهاها عن الخروج إلى الصلاة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» فعرض لها ليلة في ظهر المسجد وهي لا تعرفه، فضرب بيده عجيزتها ثم انصرف، فقعدت بعد ذلك عن الخروج إلى المسجد، وكان يقول لها: ألا تخرجين يا عاتكة؟ فتقول: كنا نخرج إذ الناس ناس وما بهم من باس، وأما الآن فلا. ثم قتل عنها الزبير قتله عمرو بن جرموز بوادي السباع وهو نائم، ثم تزوجها بعده محمد بن أبي بكر، فقتل عنها بمصر.
فقالت: لا أتزوج بعده أبدا إني لأحسبني أني لو تزوجت جميع أهل الأرض لقتلوا عن آخرهم.
وحكي عن الحارث بن عوف بن أبي حارثة أنه قال لخارجة بن سنان: أترى أخطب إلى أحد فيردني، قال:
نعم. قال: ومن هو؟ قال: أوس بن حارثة بن لام الطائي. قال: اركب بنا إليه، فركبنا إليه حتى أتينا أوس بن حارثة في بلاده، فوجدناه في فناء منزله، فلما رأى الحارث بن عوف قال: مرحبا بك يا حارث. ثم قال:
ما جاء بك؟ قال: جئت خاطبا. قال: لست هناك.
فانصرف ولم يكلمه، فدخل أوس على امرأته مغضبا، فقالت له: من الرجل الذي سلم عليك، فلم تطل معه الوقوف ولم تكلمه؟ فقال: ذلك سيد العرب الحارث بن عوف، فقالت: فما لك لا تستنزله؟ قال: إنه استهجنني.
قالت: وكيف؟ قال: لأنه جاءني خاطبا، قالت: ألست تزعم أنه سيد العرب. قال: نعم. قالت: إذا لم تزوج سيد العرب في زمانه، فمن تزوج؟ قال: قد كان ذلك. قالت:
فتدارك ما كان منك، قال: فبماذا؟ قالت: بأن تلحقه فترده. قال: وكيف، وقد فرط مني إليه ما فرط. قالت:
تقول له إنك لقيتني وأنا مغضب لأمر، فلك المعذرة فيما فرط مني، فارجع ولك عندي كل ما طلبت، قال: فركب في أثرهما. قال خارجة بن سنان: فو الله إنا لنسير إذ حانت مني التفاتة فرأيته، فقلت للحارث وهو ما يكلمني هذا أوس في أثرنا، فقال: ما أصنع به، فلما رآنا لا نقف قال:
يا حارث أربع عليّ. فوقفنا له. وكلمه بذلك الكلام.
فرجع مسرورا. قال خارجة بن سنان: فبلغني أن أوسا لما دخل منزله قال لزوجته: ادعي لي فلانة، أكبر بناته. فأتته.
فقال لها: أي بنية هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب جاءني خاطبا. وقد أردت أن أزوجك منه، فما تقولين؟ قالت: لا تفعل. قال: ولم؟ قالت: لأن في خلقي رداءة وفي لساني حدة، ولست بابنة عمه، فيراعي رحمي ولا هو بجارك في البلد فيستحي منك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره، فيطلقني. فيكون عليّ بذلك مسبة، قال لها: قومي بارك الله فيك، ثم دعا ابنته الأخرى، فقال لها مثل قوله لأختها، فأجابته بمثل جوابها، فقال لها:
قومي بارك الله فيك، ثم دعا بالثالثة، وكانت أصغرهن سنا، فقال لها مثل ما قال لأختيها، فقالت له: أنت وذاك، فقال لها: إني عرضت ذلك على أختيك، فأبتاه، ولم يذكر لها مقالتهما. فقالت: والله إني الجميلة وجها الرفيعة خلقا الحسنة رأيا، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه، فقال لها: بارك الله فيك. ثم خرج إليه، فقال: زوجتك يا حارث بابنتّي هئيسة، قال: قد قبلت نكاحها، وأمر أمها
اسم الکتاب : المستطرف في كل فن مستطرف المؤلف : الأبشيهي، شهاب الدين الجزء : 1 صفحة : 460