اسم الکتاب : الرسائل الأدبية المؤلف : الجاحظ الجزء : 1 صفحة : 463
وأرق طباعا من الهواء، ولهو أمضى من السيل وأهدى من النجم، لكان في ذلك البرهان النير والدليل البين. وكيف لا تكون كذلك وأنت الغاية في كل فضل، والنهاية في كل شكل. وأما قول الشاعر:
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدتّه نظرا
وقول الدمشقيين: ما تأملنا قط تأليف مسجدنا وتركيب محرابنا وقبة مصلانا إلا أثار لنا التأمل واستخرج لنا التفرس غرائب حسن لم نعرفها وعجائب صنعة لم نقف عليها، وما ندري أجواهر مقطعاته أكرم في الجواهر أم تنضيد أجزائه في تنضيد الأجزاء. فان ذلك معنى مسروق مني في وصفك ومأخوذ من كتبي في مدحك. والجملة التي تنفي الجدال وتقطع القيل والقال أني لم أرك قط إلا ذكرت الجنة، ولا رأيت أجمل الناس في عقب رؤيتك إلا ذكرت النار.
والعجب أيها السامع أني مقصر، وإذا رأيته علمت أني فيما يجب له مفرط، وهو رجل طينته حرة وعرقه كريم ومغرسه طيب ومنشؤه محمود، غذي بالنعمة وعاش في الغبطة وأرهفه التأديب ولطفه طول التفكير وخامره الأدب وجرى فيه ماء الحياء وأحكمته التجارب وعرف العواقب، فأفعاله كأخلاقه، وأخلاقه كأعراقه، وعادته كطبيعته وآخره كأوله. تحكي اختياراته التوفيق ومذاهبه التسديد. لا يعرف التكلف ويرغب عن التجوز وينبل عن ترك الإنصاف، ولا يمتنع عليه معرفة المبهم ولا يلتحج باستبانة المشكل، يتخير من الألفاظ أرقها مخرجا ومن المعاني أدقها مسلكا، وأحسنها قبولا، وأجودها وقوعا وأتمها إطماعا، بأقوى الكلام وأوجزه وأعذبه وأحسنه، يقلل عدد حروفه ويكثر عدد معانيه. ومن الفعل بعد ذلك أكمله تحقيقا إذا أقبل هبناه، وإذا أدبر اغتبناه، مع تمكنه وعقله وسعة صدره. وبعد [نظره] ولا يعرف الشك إلا في غيره ولا العي إلا سماعا. فمن يطمع في عيبك بل من يطمع في قدرك؟ وكيف وقد أصبحت وما على ظهرها خود إلا وهي تعثر باسمك، ولا قينة إلا وهي تغني
اسم الکتاب : الرسائل الأدبية المؤلف : الجاحظ الجزء : 1 صفحة : 463