وهكذا عكف النحاة على اللغة ينعمون فيها النظر، يسبرون غورها ويعجمون عودها فاستبطنوا دخائلها واستجلوا غوامضها. أحصوا مسائلها واستقروا دقائقها. فما جرى من كلام العرب على سنن استنبطوا حكمه وحملوا غير المنقول على المنقول منه وجعلوه قياساً لنظائره. ومضوا يعللون هذا القياس ويسببونه. فإذا سُمع شيء يأباه قياسهم هذا اتسعوا له، وأخذوا به إذا اشتهر وشاع. فإذا ندر أغفلوه وأوجبوا فيه القياس، حملاً له على أمثاله، وتأصيلاً لما استنوه من حدود وقوانين. وقد عقب البغدادي فيما حكاه المزهر (1/37) على هذا فقال: "اعلم أن اللغوي شأنه أن ينقل ما نطقت به العرب ولا يتعداه. وأما النحوي فشأنه أن يتصرف فيما ينقله اللغوي ويقيس عليه".
ما يتدارك من اللغة بالقياس:
قال ابن جني في الخصائص (2/42) : "لكن القوم بحكمتهم وزنوا كلام العرب فوجدوه على ضربين: أحدهما ما لا بد من تقبله كهيئته، لا بوصية فيه ولا تنبيه عليه، نحو صحراء ودار وما تقدم، ومنه ما وجدوه يُتدارك بالقياس وتخف الكلفة في علمه على الناس فقننوه وفصَّلوه إذ قدروا على تداركه من هذا الوجه القريب، المغني عن المذهب الحزن البعيد". وأوضح ذلك فقال: كأن يسمع سامع ضؤل ولا يسمع مضارعه فإنه يقول فيه يضؤل، وإن لم يُسمع ذلك، ولا يحتاج إلى أن يتوقف إلى أن يسمعه. لأنه لو كان محتاجاً إلى ذلك لما كان لهذه الحدود والقوانين التي وضعها المتقدمون وعمل بها المتأخرون معنى يفاد ولا غرض ينتحيه الاعتماد، ولكان القوم قد جاؤوا بجميع المواضي والمضارعات وأسماء الفاعلين والمفعولين والمصادر وأسماء الأزمنة والأمكنة".
البصرية وأصولهم