اسم الکتاب : الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين المؤلف : الأنباري، أبو البركات الجزء : 1 صفحة : 113
وقتك على ما يكون بعد ذلك، فكأنك قد شاهدته موجودًا، ولما كرهوا استعمال المضارع كانوا لاستعمال اسم الفاعل أَكْرَه لأنه لا يختص زمانًا بعينه؛ فلهذا منعوه من التصرّف، وعدم التصرّف لا يدل على أنه اسم كما قلنا في "ليس، وعسى".
وأما قولهم "إنه يصغر، والتصغير من خصائص الأسماء فنقول: الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن التصغير في هذا الفعل ليس على حد التصغير في الأسماء؛ فإن التصغير على اختلاف ضروبه: من التحقير كقولك رُجَيْل، والتقليل كقولك دُرَيْهِمَات، والتقريب كقولك قُبَيْل المغرب، والتعطف كقوله صلى الله عليه وسلم "أُصَيْحَابي أصيحابي" والتعظيم كقول الشاعر:
[86]
وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ منها الأنامل
يريد الموت، ولا داهية أعظم من الموت، والتمدّح كقول الحُبَاب بن المنذر يوم السَّقِيفَة: "أنا جُذَيْلُهَا المُحَكَّكُ، وعُذَيْقُهَا المُرَجَّبُ" فإنه يتناول الاسم لفظًا ومعنًى، والتصغير اللاحق فعل التعجب إنما يتناوله لفظًا لا معنًى، من حيث كان متوجِّهًا إلى المصدر، وإنما رَفَضُوا ذكر المصدر ههنا لأن الفعل إذا أزيل عن التصرف لا يؤكد بذكر المصدر؛ لأنه خرج عن مذهب الأفعال، فلما رفضوا المصدر وآثروا تصغيره صغّروا الفعل لفظًا، ووجهوا التصغير إلى المصدر، وجاز تصغير المصدر بتصغير فعله؛ لأن الفعل يقوم في الذكر مقام مصدره؛ لأنه يدل عليه بلفظه، ولهذا يعود الضمير إلى المصدر بذكر فعله، وإن لم يَجْرِ له ذكر، قال الله تعالى:
{وَلا يحْسَبَنَّ الَّذِينَ يبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيرًا لَهُمْ} [آل عمران: 180]
[86] هذا البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري، وقد استشهد به ابن يعيش في شرح المفصل "ص709" والمحقق رضي الدين في شرح شافية ابن الحاجب "رقم 38". والأناس: هو أصل الناس، وحذفت الهمزة من الأناس للتخفيف، وهذا عند من يرى أن الناس مأخوذ من الأنس، ومن العلماء من يذهب إلى أن الناس مأخوذ من النوس ومعناه الحركة، ومنهم من يذهب إلى أن الناس مأخوذ من النسيان، و "سوف" في هذا الموضع للتحقيق والتأكيد، و "دويهية" تصغير داهية، وأصل الداهية المصيبة من مصائب الدهر، وأراد بها ههنا الموت، ويروى في مكانه "خويخية" وهو مصغر الخوخة -بفتح الخاءين وسكون الواو بينهما- والمراد بالمصغر الداهية أيضًا، وقوله "تصفر منها الأنامل" أراد بالأنامل ههنا الأظفار؛ لأنها هي التي تصفر بالموت، والاستشهاد بالبيت في قوله "دويهية" فإن تصغير هذه الكلمة عند علماء الكوفة للتعظيم، لا للتحقير، وقد حقق العلامة رضي الدين أن تصغير هذه الكلمة للتحقير، لا للتعظيم كما زعمه الكوفيون، وكذلك قال ابن يعيش وفسره بقوله "فالمراد أن أصغر الأشياء قد يفسد الأصول العظام" ا. هـ.
اسم الکتاب : الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين المؤلف : الأنباري، أبو البركات الجزء : 1 صفحة : 113