اسم الکتاب : فقه اللغة وسر العربية المؤلف : الثعالبي، أبو منصور الجزء : 1 صفحة : 21
وكنت إذ ذاك مقيم الجسم شاخص العزم فاستأذنته في الخروج إلى ضيعة لي متناهية الاختلال بعيدة المزار فأجمع فيها بين الخلوة والتأليف وبين الاستعمار[1]. فأذن لي - أدام الله غِبطته - على كره منه لفرقتي وأمر - أعلى الله أمره - بتزويدي من ثمار خزائن كتبه عمَّرها الله بطول عمره ما أستَظهِرُ به على ما أنا بصدده. فكان كالدليل يعين ذا السفر بالزاد والطبيب يتحف المريض بالدواء والغذاء.
وحين مضيت لِطِيَّتي وألممت بمقصدي وجدتُ بركة حُسْن رأيه ويُمن اعتزائي إلى خدمته قد سبقاني إليه وانتظراني به وحصلت مع البعد عن حضرته في مطرح من شعاع سعادته يُبَشِّرُ بالصُّنع الجميل ويؤذن بالنُّجح القريب. وَتُرِكْتُ والأدب والكتب أنتقي منها وأنتخب وأفَصِّل وأبَوِّب وأقَسِّم وأرَتب وأنتجع[2] من الأئمة مثل الخليل والأصمعي وأبي عمرو الشيباني والكسائي والفرَّاء وأبي زيد وأبي عبيدة وأبي عبيد وابن الأعرابي والنضر بن شميل وأبوي العبّاس وابن دريد ونِفطَوية وابن خالَوَيه والخارَزَنجي والأزهري ومن سواهم من ظرفاء الأدباء الذين جمعوا فصاحة البلغاء إلى إتقان العلماء ووعورة اللغة إلى سهولة البلاغة كالصاحب أبي القاسم وحمزة بن الحسن الأصبهاني وأبي الفتح المراغِيَ وأبي بكر الخوارزمي والقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجُرجاني وأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القَزويني وأجتبي من أنوارهم وأجتني من ثمارهم وأقتفي آثار قوم قد أقفرت منهم البقاع وأجمع في التآليف بين أبكار الأبواب والأوضاع وعُون[3] اللغات والألفاظ كما قال أبو تمّام: [من الكامل]
أمّا المعاني فهي أبكار إذا
... افتُضَّتْ ولكنَّ القوافِيَ عُونُ
ثم اعترضتني أسباب وعَرَضت لي أحوال أدَّت إلى إطالة عِناقِ الغيبة عن تلك الحضرة المسعودة والمُقام تحت جَناحِ الضَّرورة من الضَّيعة المذكورة بِمَدْرَجَةٍ من النوائب تَصُكُّني[4] فيها سفاتجُ[5] الأحزان وترسل عليَّ شُواظاً[6] من نار القُفْص[7] الذين طغوا في البلاد فأكثروا [1] الاستعمار: عمر الرجل ماله وبيته: لزمه وأعمره المكان واستعمره فيه: جعله يعمره "أهلا" القاموس 571. [2] أنتجع: نجاع: اتباع وانتجع: طلب الكلأ في موضعه وانتجع فلانا أتاه طالبا معروفه القاموس 989. [3] العون من النساء: التي كان لها زوج العوان ومن البقر والخيل التي نتجت بعد بطنها البكر القاموس 1571. [4] الصك: صكه ضربه شديدا بعريضي القاموس 1221. [5] السفتجة أن يعطي مالا لآخر وللآخر مال في بلد المعطي فيوفيه إياه ثم فيستفيد أمن الطريق القاموس 247. [6] الشواظ: الشظ بقية النار القاموس 899. [7] القفص: جبل بكرمان أو جيل من الناس متلصصون في نواحي كرمان أصحاب مراس في الحرب القاموس 810.
اسم الکتاب : فقه اللغة وسر العربية المؤلف : الثعالبي، أبو منصور الجزء : 1 صفحة : 21